الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الرابع عشر: في ان الاقطار في اختلاف احوالها بالرفه والفقر مثل الامصار

إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار وتعددت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم ومما لكهم والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على الناس كسبا يتأثلونه حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب فيتزيد الرفه لذلك وتتسع الأحوال ويجي الترف والغنى وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها وتتفنن في اتخاذ المعاقل والحضون واختطاط المدن وتشييد الأمصار واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين وناحية الشمال كلها
366
وأقطارها وراء البحر الرومي لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف وكذا تجار أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والدقة غرائب تسير الركبان بحديثها وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر ويحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو من بلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة فلو كان المال عتيدا موفورا لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يتغون بها الأموال ولا استغنوا عن أموال الناس بالجملة ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال وأتساعها ووفور أموال فقالوا بإن عطايا الكواكب والسهام في مواليد الشرق اكثر منها حصصا في مواليد أهل المغرب وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي فقد فهمت مما أشرنا لك أولا أنه لا يستقل بذلك وأن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بد منه واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر افريقية وبدقة لما خفت سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة وضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته وكانت أموال الدولة بحيث حمل
367
جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعد بها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة وقطر المغرب وإن كان في القديم دون أفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك وكانت أحواله في دول الموحدين متسعة وجباياته موفورة وهو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه وتناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره ونقص عن معهوده نقصا ظاهرا محسوسا وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال أفريقية بعد أن كان عمرانه متصلا من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بين السوس الأقصى ورفة وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين