والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال
369
العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران وكثرة الرفه في أهلها وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولةثم في من تعلق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة ولهذا تجد الأمصار التي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يحضر ما قرب فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدمنا أن السلطان الدولة سوق للعالم فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السوق أفتقدت البضائع جملة ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشام منهم ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة وكذلك أيضا رسخت
370
عوائد الحضارة باليمن لإتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلآفا من السنين وأعقبهم ملك مصر وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها من لدن الكلدانيين والكيانية والكسروية والعرب بعدهم آلافا من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر وكذا أيضا رسخت عوائد الحضارة واستحكمت ملك بني أمية آلافا من السنين وكلتا الدولتين عظيمة فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت وأما أفريقية طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز وأهل المغرب لم تجاوزهم دولة وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب أفريقية والمغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلا أول الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقر منهم بأفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على يد ميسرة المطفري أيام هشام ابن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لأدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البرابر هم الذين تولوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد وبقيت أفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان وورث ذلك عنهم كتامه ثم صنهاجة من بعدهم وذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة وتغلب بدو العرب الهلاليين عليها وخربوها وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها وإلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من الحضارة في شؤن منزله وعوائد أحواله آثارا ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها وكذا في أكثر أمصار أفريقية وليس كذلك في المغرب وأمصاره لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمدا منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة وأما المغرب فانتقل إليه منذ دولة
371
الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها وكانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثارا ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب واقريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء ورجع إلى أعقابه وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة وعلى كل حال فآثار الحضارة بأفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس وأعلم أنها أمور متناسبة وهي حال الدولة في القوة والضعف وكثرة الأمة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النعمة واليسار وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادة لها من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثت فيهم ورجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا وعلى نسبة يسار الرعايا وكثرتهم يكون مال وأصله كله العمران وكثرته فاعتبره وتأمله في الدول تجده والله يحكم ولا معقب لحكمه