الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل الثامن عشر: في ان الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها موذنة بفساده

قد بينا لك فيما سلفت أن الملك والدولة غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقةله عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من اشخاص المكونات عمرا محسوسا وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا
372
كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو السلابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات التي تطالب بها العوائد ويعجز وينكب عن الوفاء بها وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته ثم تزيدها المكوس غلاء لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم والمكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلا في قيم المبيعات وأثمانها فتعظم نفقات أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق والخاصة ويغلب عليهم الفقر ويقل المستامون للمبائع فتكسد الأسواق ويفسد حال المدينة وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف وهذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق والعمران وأما فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على
373
الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات ثم تجدهم أبصر بطوق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك وتجدهم أيضا أبصر بالمكروا لخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم إلا من عصمة الله ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب وغلب عليه خلق الجوار وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات وذلك أن الناس بشر متماثلون وإنما تفاضلوا وتميزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل فمن استحكمت فيه لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة في الشر والسفسفة وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ووجهه حينئذ ان مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحدا واحدا اختل نظام المدينة وخربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى أن كثيرا من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور وليس المراد ذلك ولا أنه خاصية في النارنج وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة ثم إن النارنج واللية والسرو وأمثال ذلك مما لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى وهو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب الترف ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات
374
البطن من المآكل والملاذ فيفضي ذلك إلى فساد النوع فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك والحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته إما عجزا لما حصل له من الدعة أو ترفعا لما حصل له من المربى في النعيم والترف وكلا الأمرين ذميم وكذا لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك والحضري بما قد فقد من خلق الإنسان بالترف والنعيم في قهر التأديب فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه ثم هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت منه العوائد وطاعتها وما تلونت به النفس من مكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة وبها الاعتبار كأن الذين يتربون على الحضارة وخلقها موجودون في كل دولة فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن