الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل 21: في وجود العصبية في الامصار وتغلب بعضهم على بعض

من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب وأنه تحصل به العصبية بعضا مما تحصل بالنسب وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضا إلى أن يكونوا لحما لحما وقرابة قرابة وتجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعا وعصائب فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة والنفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرئاسة فتطمح المشيخة لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة إلى الاستبداد وينازع كل صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والاحلاف ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه ويتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليقص من أعنتهم ويتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يخضد منهم الشوكات النافذة ويقلم الأظفار الخادشة ويستبد بمصره أجمع ويرى أنه قد استحدث ملكا
378
يورثه عقبه فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدة والهرم وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والأقطار والممالك فينتحلون بها من الجلوس على السرير واتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد والتختم والمسبية والخطاب بالتمويل ما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات حتى صارت عصبية وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذهب السذاجة قرارا من التعريض بنفسه للسخرية والعبث وقد وقع هذا بأفريقية لهذ العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب وما إلى ذلك سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة وأقطعوها جانبا من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد وحدث في خلفهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لاعقاب الملوك وخلفهم ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المومنين أبو العباس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدولة وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية واستقل بأمصار الجريد أهلها واستبدوا على الدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي ونقلهم كلهم من إماراتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره وكذا وقع بسبته لآخر دولة بني عبد المؤمن وهذا التغلب يكون غالبا في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرئاسة في المصر وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها له المقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة والله سبحانه وتعالى غالب على أمره