الفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق - الفصل 22: في لغات أهل الامصار

379

إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم والدين والحلة صورة للوجود وللملك وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها واعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطانة الأعاجم وقال إنها خب أي مكر وخديعة فلما هجر الدين اللغات الأعجمية وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره وإن كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار الإسلام وأيضا فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم واللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئا فشيئا وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين وسار ذلك مرجحا لبقاء اللغة العربية المضرية من الشعر والكلام إلا قليلا بالأمصار فلما ملك التتر
380
والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام إلا قليلا يقع تعليمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من كلام العرب وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس بالمغرب لبقاء الدين طلبا لها فانخفظت ببعض الشيء وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي وكذا تدريسه في المجالس والله أعلم بالصواب