الفصل الخامس: الفصل الخامس من الكتاب الاول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل - الفصل الثامن عشر: في ان رسوخ الصنائع في الامصار انما هو برسوخ الحضارة وطول امدة

والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران والأوان والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها ولهذا نجد في الأمصار التي كانت استجرت في
402
الحضارة لما تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها وهذه لم تبلغ الغاية بعد وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش في القصور وحسن الترتيب والأوضاع في البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها ونجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار وإن كان عمرانها قد تناقص والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وما قبلها من دولة القوط وما بعدها من دولة الطوائف وهلم جرا فبلغت الحضارة فيها مبلغا لم تبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق والشام ومصر أيضا لطول آماد الدول فيها فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب وكذا أيضا حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدول الصنهاجية والموحدين من بعدهم وما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال وإن كان ذلك دون الأندلس إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما وتردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة وربما سكن أهلها هناك عصورا فينقلون من عوائد ترفهم ومحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه ومن أحوال الأندلس ما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة ورسخ فيها من ذلك أحوال وإن كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلا بزوال محلها وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة
403
ابن حماد أثرا باقيا من ذلك وإن كانت هذه كلها اليوم خرابا أو في حكم الخراب ولا يتفطن لها إلا البصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثارا تدله على ما كان بها كأثر الخط الممحو في الكتاب والله الخلاق العليم