هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للسكنى والمأوى للأبدان في المدن وذلك أن الإنسان لما جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها والبشر مختلف في هذه الجبلة الفكرية فمنهم المعتدلون فيها فيتخذون ذلك باعتدال أهالي الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس وأما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك لقصور
407
أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران والكهوف المعدة من غير علاج ثم المعتدلون المتخذون للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشون طرق بعضهم بعضا فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم ويصير جميعا مدينة واحدة ومصرا واحدا ويحوطهم الحكم من داخل يدفع بعضهم عن بعض وقد يحتاجون إلى الانتصاف ويتخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل في المدن كل مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه ويناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر وكذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتخذ القصور والمصانع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه ويؤسس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس ويعالي عليها بالأصبغة والجص ويبالغ في ذلك بالتنجيد والتنميق إظهارا للبسطة بالعناية في شأن المأوى ويهيىء مع ذلك الأسراب والمطامير للاختزان لأقواته والإسطبلات لربط مقرباتها إذا كان من أهل الجنود وكثرة التابع والحاشية كالأمراء ومن في معناهم ومنهم من يبني الدويرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده لا ينبغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه واقتصاره على الكن الطبيعي للبشر وبين ذلك مراتب غير منحصرة وقد يحتاج لهذه الصناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلو الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها وهذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك وأكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب والطين وإنما يوجد في الأقاليم المعتدلة له وأهل هذه الصناعة القائمون عليها متفاوتون فمنهم البصير الماهر ومنهم القاصر ثم هي تتنوع أنواعا كثير فمنها البناء بالحجارة المنجدة يقام بها الجدران ملصقا بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها ويلتحم كأنها جسم واحد ومنها البناء بالتراب خاصة يتخذ لها لوحان من الخشب مقدران طولا وعرضا باختلاف العادات في التقدير وأوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد بوعد
408
ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر ويسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيه التراب مخلطا بالكلس ويركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه ثم يزاد التراب ثانيا وثالثا إلى أن يمتليء ذلك الخلاء بين اللوحين وقد تداخلت أجزاء علىصورة ويركز كذلك إلى أن يتم وينظم الألواح كلها سطرا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحما كأنه قطعة واحدة ويسمى الطابية وصانعه الطواب ومن صنائع البناء أيضا أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعا أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط وذلك إلى أن يلتحم ومن صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر ويصب عليها التراب والكلس ويبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجع جسدا وفيه بقية البلل فيشكل على التناسب تخريما بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورؤاء وربما عولي على الحيطان أيضا بقطع الرخام والآجر والخزف أو بالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان كأنه قطع الرياض المنمنمة إلى غير ذلك من بناء الجباب والصهاريج لسفح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج يجلب إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت وأمثال ذلك من أنواع البناء وتختلف الصناع في جميع ذلك باختلاف الحذق والبصر ويعظم عمران المدينة ويتسع فيكثرون وربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء وذلك أن الناس في المدن لكثرة الازدحام والعمران يتشاحون حتى في الفضاء والهواء الأعلى
409
والأسفل ومن الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق ويختلفون أيضا في استحقاق الطرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات وربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرصة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار ولا إهمال لمنفعتها وأمثال ذلك ويخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله المستدلين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك فلهم بهذا كله البصر والخمرة التي ليست لغيرهم وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدول وقوتها فإنا قدمنا أن الصنائع وكمالها إنما هو بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطالب لها فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها كما وقع للوليد ابن عبد الملك حيث أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشام فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث اليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد وقد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله وكذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفا فيتم المراد من ذلك غير واضفة وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني وليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه فتفهم ذلك والله يخلق ما يشاء سبحانه