الفصل الخامس: الفصل الخامس من الكتاب الاول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل - الفصل 26: الفصل السادس والعشرون: في صناعة النجارة

410

هذه الصناعة من ضروريات العمران ومادتها الخشب وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته أو حاجاته وكان منها الشجر فإن له فيه من المنافع ما لا ينحصر مما هو معروف لكل أحد ومن منافعها اتخاذها خشبا إذا يبست وأول منافعه أن يكون وقودا للنيران في معاشهم وعصيا للاتكاء والذود وغيرهما من ضرورياتهم ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرماح والقسي والسهام لسلاحهم وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم وكل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها ولا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة والصناعة المتكفلة بذلك المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولا إما بخشب أصغر منه أو ألواح ثم تركب تلك الفصائل بحسب الصور المطلوبة وهو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص والقائم على هذه الصناعة هو النجار وهو ضروري في العمران ثم إذا عظمت الحضارة وجاء الترف وتأنق الناس فيما يتخدونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون حدث التأنق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصناعة كمالية ليس من الضروري في شيء مثل التخطيط في الأبواب والكراسي ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة وتلحم بالدسائر فتبدو لرأي العين ملتحمة وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجىء آنق ما يكون وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب من أي نوع كان وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح والدسر وهي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشكل أعون
411
لها في مصادمة الماء وجعل لها عرض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح وربما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل وهذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى أصل كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير إما عموما أو خصوصا وتناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس ولهذا كانت أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجارا وبها كان يعرف وكذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم وفيما يقال أن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام وبها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان وهذا الخبر وإن كان ممكنا أعني كونه نجارا إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد وإنما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم يصح حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السلام فجعل كأنه أول من تعلمها فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق