الفصل الخامس: الفصل الخامس من الكتاب الاول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل - الفصل 28: في صناعة التوليد

وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر وهي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض وتسمى القائمة على ذلك منهن القابلة استعير فيها معنى الإعطاء والقبول كأن النفساء تعطيها الجنين وكأنها تقبله وذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم وأطواره وبلغ إلى غايته والمدة التي قدرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك ويضيق عليه المنفذ فيعسر وربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط وربما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرحم وهذه كلها آلام يشتد بها الوجع وهو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر والوركين وما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسرة ثم إن أخرج الجنين بقيت بينه وبين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه وتلك
413
الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضلة ولا تضر بمعاه ولا برحم أمه ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربما تتغير أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التكوين ورطوبة المواد فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي ووضعه المقدر له ويرتد خلقه سويا ثم بعد ذلك تراجع النفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلا ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية وهي فضلات فتعفن ويسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية التي كانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان والذرورات القابضة لتشده وتجفف رطوبات الرحم وتحنكه لرفع لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه وتجويفها عن الالتصاق ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال إذ المولود إن لم يكن عضوا طبيعيا فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج وهذه كلها أدواء نجد هؤلاءالقوابل أبصر بدوائها وكذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر وما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط فإذا جاوز الفصال صار بدنا إنسانيا بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد فهذه الضناعة كما تراه ضرورية في العمران للنوع الإنساني لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها وقد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة إما بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقا للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيرا ومنه ما روي أن
414
النبي صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا واضعا يديه على الأرض شاخصا ببصره إلى السماء وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك وأما شأن الإلهام فلا ينكر وإذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب الإلهامات كالنحل وغيرها فما ظنك بالإنسان المفضل عليها وخصوصا بمن اختص بكرامة الله ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العام لهم فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به ومن هنا يفهم بطلان رأي الفارابي وحكماء الأندلس فيما احتجوا به لعدم انقراض الأنواع واستحالة انقطاع المكونات وخصوصا في النوع الإنساني وقالوا لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها إذ لو قدرنا مولودا دون هذه الصناعة وكفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلا ووجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته وتابعه له وتكلف ابن سيناء في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع وخراب عالم التكوين ثم عوده ثانيا لاقتضاءات فلكية وأوضاع غريبة تندر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتم كونه إنسانا ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاما لتربيته والحنو عليه إلى أن يتم وجوده وفصاله وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان وهذا الاستدلال غير صحيح وإن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدل به فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة ودليل القول بالفاعل المختار يرد عليه ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة ولا حاجة إلى هذا الكلف ثم لو سلمناه جدلا فناية ما ينبني عليه اطراد وجود هذا الشخص بخلق الإلهام لتربيته في الحيوان الأعجم غير واضحة الضرورة الداعية لذلك وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قررناه أولا وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك والله تعالى أعلم