415
وانها محتاج اليها في الحواضر والامصار دون البادية هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء ودفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم واعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الجامع للطب وهو قوله المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأصل كل داء البردة فأما قوله المعدة بيت رأس الدواء فالحمية الجوع وهو الاحتماء من الطعام والمعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية وأما قوله أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول وسرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دما ملائما لأجزاء البدن من اللحم والعظم ثم تأخذه النامية فينقلب لحما وعظما ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طورا بعد طور حتى يصير جزءا بالفعل من البدن وتفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخا يسيرا وقلبت مزاجه بعض الشيء كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاما ثم أجدتها مضغا وترى مزاجها غير مزاج الطعام ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموسا وهو صفو ذلك المطبوخ وترسله إلى الكبد وترسل ما رسب منه في المعى ثفلا ينفذ إلى المخرجين ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير عبيطا وتطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء وترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء ويقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم ثم ترسلها إلى الكبد كلها في العروق والجداول ويأخذها طبخ الحال الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني وتأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحما ثم غليظه عظاما ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللعاب والمخاط والدمع وهذه صورة الغذاء وخروجه من القوة إلى الفعل لحما ثم إن أصل الأمراض ومعظمها هي
416
الحميات وسببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن تمام النضج في طبخه في كل طور من هذه فيبقى ذلك الغذاء دون نضج وسببه غالبا كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغريزي أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيستقل به الحار الغريزي ويترك الأول بحالة أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ والنضج وترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضا على إنضاجه وربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدمع واللعاب إن اقتدر على ذلك وربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق والكبد والمعدة وتتزايد مع الأيام وكل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ والنضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج وهو المسمى بالخلط وكل متعفن ففيه حرارة غريبة وتلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى واختبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن وفي الزبل إذا تعفن أيضا كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها فهذا معنى الحميات في الأبدان وهي رأس الأمراض وأصله كما وقع في الحديث وهذه الحميات علاجها بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم يتناول الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه وذلك في حال الصحة علاج في التحفظ من هذا المرض وأصله كما وقع في الحديث وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص فيتولد عنه مرض في ذلك العضو ويحدث جراحات في البدن إما في الأعضاء الرئيسية أو في غيرها وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له هذه كلها جماع الأمراض وأصلها في الغالب من الأعذية وهذا كله مرفوع إلى الطبيب ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر لغصب عيشهم وكثرة مأكلهم وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية وعدم توقيتهم لتناولها وكثيرا ما يخلطون بالأغذية من التوابل والبقول والفواكه رطبا ويابسا في سبيل العلاج بالطبخ ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع فربما عددنا في اليوم الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعا من النبات والحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب وربما يكون غريبا عن ملاءمة البدن وأجزائه ثم إن الأهوية في الأمصار
417
تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئا ولا تؤثر فيها أثرا فكان وقوع الأمراض كثيرة في المدن والامصار وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة وربما يظن أنها جبلة لاستمرارها ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن وأما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا ظواعن ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه وما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا