هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعا عند قطعة فيكون نغمة ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزء من أحد عشر من آخر واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع بخروجها من البساطة إلى التركيب وليس كل تركيب منها ملذوذا عند السماع بل للملذوذ تراكيب خاصة وهي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلموا عليها كما هو مذكور في موضعه وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك فترى لها لذة عند السماع فمنها لهذا العهد أصناف منها ما يسمونه الشبابة وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوت فيخرج الصوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش ويقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه وتتصل كذلك متناسبة فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه ومن جنس هذه الالة المزمار الذي يسمى الزلامي وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها وتصوت بنغمة حادة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة ومن أحسن الآ الزمر لهذا العهد البوق وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار
424
الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخينا دويا وفيه أبخاش أيضا معدودة وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذا ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلها إما على شكل قطعة من الكرة مثل المربط والرباب أو على شكل مربع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة لياتي شد الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر ويقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحك بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع ولنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء وذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم والمحسوس إنما تدرك منه كيفية فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها وكذا الملائم من الملموسات وفي الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك وإليه تؤديه الحاسة ولهذا كانت الرياحين والأزهار العطريات أحسن رائحة وأشد ملاءمة أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك كان ذلك حينئذ مناسبا للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله وهو اتحاد المبدإ وإن كان ما سواك إذا نظرته وتأملته
425
رأيت بينك وبينه اتحادا في البداءة ويشهد لك به اتحاد كما في الكون ومعناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء فتود أن يمتزج بمشاهدات فيه الكمال لتتحد به بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدإ والكون ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني كان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن فأولا أن لا يخرج من الصوت إلى مده دفعة بل يتدرج ثم يرجع كذلك وهكذا إلى المثل بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين وتأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه وثانيا تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل متناسبا على ما حصره أهل الصناعة فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة ومن هذا التناسب ما يكون بسيطا ويكون الكثير من الناس مطبوعا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك وتسمى العامة هذه القابلية بالمضمار وكثير من القراء بهذه المثابة يقرأون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب وليس كل الناس يستوي في معرفته ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين وأجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه وليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه لأن القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعين أداء الحروف لا
426
من حيث اتباع الحركات في موضعها ومقدار المد عند من يطلقه أو يقصره وأمثال ذلك والتلحين أيضا يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين واعتبار أحدهما قد يخل بالآخر إذا تعارضا وتقديم الرواية متعين من تغيير الرواية المنقولة في القرآن فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القرآن بوجه وإنما مرادهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره ولا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك هذا هو محل الخلاف والظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى لأن القرآن محل خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لقد أوتى مزمارا من مزامير آل داود فليس المراد به الترديد والتلحين إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها وإذا قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفننوا فتحدث هذه الصناعة لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم وأما العرب فكان لهم أولا فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة لا ينعطف على الآخر ويسمونه البيت فتلائم الطبع بالتجزئة أولا ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادىء ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه بهذا التناسب وجعلوه ديوانا لأخبارهم
427
وحكمهم وشرفهم ومحكا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب واستمروا على ذلك وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علما ولا عرفوا صناعة وكانت البداوة أغلب نحلهم ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم والفتيان في فضاء خلواتهم فرجعوا الأصوات وترنموا وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرا بالغين المعجمة والباء الموحدة وعللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكر بالغابر وهو الباقي أي بأحوال الآخرة وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره وكانوا يسمونه السناد وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيضطرب ويستخف الحلوم وكانوا يسمون هذا الهزج وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئا ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو دينهم ومذهبهم فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفة بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي العرب وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب بن جابر مولى عبيد الله ابن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره وما زالت تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو
428
واللعب واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه وجعل صنفا وحده واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون ويفرون ويثاقفون وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحن الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحله من دولته وندمائه بمكان فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطما منها بأشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بأفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح وهو أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه والله أعلم