الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل الثاني: في ان التعليم للعلم من جملة الصنائع

وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدىء فيه وبين العامي الذي لم يعرف علما وبين العالم النحرير والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر وغيره كالحساب والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم وإلا لكان واحدا عند جميعهم ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين وكذا أصول الفقه وكذا العربية وكذا كل علم يتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم والعلم واحد في نفسه وإذا تقرر ذلك فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب
431
باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستجر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادا منها ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدإها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من أفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي كان ارتحل إليه من الغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام شارح بن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه فانه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقن تعليمهم وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد ونزل ببجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها فتجد طالب العلم منهم بعد
432
ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين وهذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك وأما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه وأما الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين وأما العقليات فلا أثر ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران وتغلب العدو على عامتها إلا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها والله غالب على أمره وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب فلم تزل موفورة وعمرانها متصلا وسند التعليم بها قائما فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم وفي سائر الصنائع حتى أنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنهم اشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك
433
ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع ونزيده الآن تحقيقا وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ قدمنا أن لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيتة وعقله وليس كذلك وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من
434
ذلك هو رونق الصنائع والتعليم فإن لها آثارا ترجع إلى النفس كما قدمناه وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدمناه في الفصل قبل هذا ظن المغفلون في بادىء الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهوإله السموات والأرض