الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل السابع: في علم الفقه وما يتبعه من الفرائض

ألفقه معرفة أحكام الله تعالى في افعال المكلفين بالوجوب والجهر والندب والكراهة والإباحة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم ولا بد من وقوعه ضرورة أن الأدلة غالبها من النصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضا فالادلة من غير النصوص مختلف فيها وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص وما كان منها غير ظاهر في المنصوص
446
فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهة ومحكمة وسائر دلالته بما تلقوه من النبي أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم وكانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين طريقة أهل الرأي والقياس وهم أهل العراق وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز وكان الحديث قليلا في أهل العراق لما قدمناه فاسنكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم الظاهرية وجعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص لأن النص على العلة نص على الحكم في جميع محالها وكان إمام هذا المذهب داود ابن علي وابنه وأصحابهما وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها أصول واهية وشذ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم فكتب الشيعة فل بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله ولم يبق إلا في الكتب المجلدة وربما بما يعكف كثير من الطالبين
447
ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم فلا يخلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه وربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث وصار إلى مذهب أهل الظاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم وخالف إمامهم داود وتعرض للكثير من الأئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا وتلقوا كتبه بالإغفال والترك حتى إنها ليحصر بيعها بالاسواق وربما تمزق في بعض الأحيان ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصا مالك والشافعي وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك ابن انس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختص بزيادة مدرك آخر للإحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي الآخذين ذلك عنه وصار ذلك عنده من اصول الأدلة الشرعية وظن كثيرا أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة واعلم أن الإجماع إنما هو الانفاق على الأمر الديني عن اجتهاد ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع والأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة واتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم ولو ذكرت المسألة في باب فعل النبي وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن أدريس المطلبي الشافعي رحمهما الله تعالى رحل إلى العراق
448
من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختص بمذهب وخالف مالكا رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله وكان من عليه المحدثين وقرا أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلدون لمن سواهم وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم ولما علق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرحوا بالعجز والإعواز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به المقلدين وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية وللأخبار بعضها ببعض وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر الناس حفظا للسنة ورواية الحديث وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر وبلاد العجم كلها لما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسنت مباحثهم في الخلافيات وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي الناس وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره وكان الإمام محمد بن أدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم
449
وأبن المواز وغيرهم ثم الحارس بن مسكين وبنوه ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشي من سواهم إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن ايوب ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه واشتهر منهم محي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضا ثم ابن الرقعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته وايضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البدواة ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب ولما صار مذهب كل أمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيلا إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذاهب إمامهم وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكه راسخة يقتدربها على ذلك النوع من التنظير اوالتفرقة واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك رحمه الله وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللبان والقاضي وابي بكر الأبهري والقاضي أبي حسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم وكان
450
بمصر أبن القاسم وأشهب وأبن عبد الحكم والحارث بن مسكين وطبقتهم ورحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب فاخذ عن ابن القاسم وطبقته وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية ورحل من أفريقية أسد بن الفرات فكتب عن اصحاب أبي حنيفة أولا ثم انتقل إلى مذهب مالك وكتب علي ابن القاسم في سائر أبواب الفقه وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى اسد بن الفرات فقرا بها سحنون على اسد ثم أرتحل إلى المشرق ولقي أبن القاسم وأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه وأتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من أختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة والمختلطة وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضا أو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب واعتمده المشيخة من أهل أفريقية واخذوا به وتركوا ما سواه وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز التونسي وأبن بشير وأمثالهم وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وامثاله وجمع ابن ابي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب وفرع الأمهات كلها في هذا الكتاب ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة وزخرت بحار المذاهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى ان جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق اهل المذهب في كل باب وتعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشر وابن اللهبت وابن الرشيق وابن شاس وكانت بالإسكندرية في بني عوف
451
وبني سند وابن عطاء الله ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيريين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذة ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه وقد شرحه جماعة من شيوخهم كإبن عبد السلام وابن رشد وابن هارون وكلهم من مشيخة أهل تونس وسابق في حلبتهم في الإجادة في ذلك أبن عبد السلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم