الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل التاسع: في أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات

إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام التآليف وأصول  الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبنية له فعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى بما يوحي إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله
453
بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر وأما السنة فاجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقة وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الأعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشرعيات ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباة بالأشباة منهما ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليهم بعضهم لبعض في ذلك فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت والحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصحيح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو القياس وهو رابع الإدلة واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلا أنه شذوذ وألحق بعضهم بهذه الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها وشذوذ القول فيها فكان أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتواتر في نقله فلم يبق فيه مجال للاحتمال وأما السنة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنقاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمرا وناهيا وأما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة وأما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه هذه أصول الأدلة ثم أن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر من طرق النقل وعدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل وهذه أيضا من قواعد الفن ويلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين وطلب المتقدم منهما
454
معرفة الناسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان وحين كان الكلام ملكه لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنها جبلة وملكة فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح ومقايس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام وهو الفقه ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة وفيها تستفاد الأحكام بحسب ما اصل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الأستفاده مثل أن اللغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معناه معا والواو لا تقتضي الترتيب والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي والنهي يقتضي الفساد أو الصحة والمطلق هل يحمل على المقيد والنص على العلة كاف في التعدد أم لا وأمثال هذه فكانت كلها من قواعد هذا الفن ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية ثم إن النظر في القياس من اعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف والفرع من معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها وأما الاسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم فلما انقرض السلف وذهب
455
الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررنا من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه أملي فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها وكتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل على الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن وجاء أبو زيد الدبوسي من ائمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكمالة وتهذبت مسائلة وتمهدت قواعده وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزالي وهما من الأشعرية وكتاب العهد لعبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الأمدي في كتاب الأحكام واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج فأبن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج والأمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل وأما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج وعني المبتدئون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس وأما كتاب الإحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصه أبو عمر بن الحاجب في كتابه
456
المعروف بالمختصر الكبير ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبه العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات واما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيرا وكان من احسن كتابة فيها للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من إئمتهم وهو مستوعب وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الإحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين وسمي كتابه بالبدائع فجاء من احسن الأوضاع وأبدعها وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا وأولع كثير من علماء العجم بشرحه والحال على ذلك لهذا العهد هذه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التأليف المشهور لهذا العهد فيه والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير واما الخلافات فأعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لابد من وقوعه لما قدمناه واتسع في ذلك الملة اتساعا عظيما وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا منهم ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة فأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين باجكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على اصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي قلده وتمسك به وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من ابواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك وأبو حنيفة يوافق إحدهما وتارة بين مالك وأبي حنيفة والشافعي يوافق احدهما وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة ومالك يوافق إحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها
457
إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من ان يهدمها المخالف بأدلته وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال عليه وتأليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تأليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر والبحث وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل وللغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة ولأبن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة وقد جمع أبن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا في كل مسألة ما ينبنى عليها من الخلافيات وأما الجدال وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين اهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى ان يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا منقطعا ومحل اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره وهي طريقتان طريقة البزدوي وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال وطريقة العميدي وهي عامة في كل دليل يستدل به من اي علم كان أو أكثره استدلال وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة وإذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة تتحرى فيها طرق الآستدلال كما ينبغي وهذا العميدي هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة إليه وضع الكتاب المسمى بالإرشاد مختصرا وتبعه من بعده
458
سن المتأخرين كالنسفي وغيره جاءوا على اثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق