هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الأيمانية بالأدلة العقلية والرد على المتبدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملة وما دعا إلى وضعه فنقول إن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة وعنها يتم كونه وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بد له من اسباب أخر ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه من لا اله في إدراكها وتعديدها فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية والحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والإرادات إذ لا يتم كون الفعل الا بإرادته والقصد إليه والقصود والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات اخرى وكل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا على ترتيبها إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعض والأنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها وإنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة ويقع في مداركها على نظام وترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها واما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فرق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة ونأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر
459
إلى الأسباب والوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يحلو منه بطائل ولا يظفر بحقيقه قال الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه واصبح من الضالين الهالكين نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين ولا يحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك وأختيارك بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبه لا نعلمها إذ لو علمناها لتحررنا منها فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة وايضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لأطلاعه إلى ما وراء الحس قال صلى الله عليه وسلم من مات يشهد أن لا اله إلا الله دخل الجنة فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر وان سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وامرنا بالتوحيد المطلق قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوأ أحد ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات واسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من اهل عصرهم والكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة
460
محدثة وخلق الله أكبر من خلق الناس والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط فاتهم إدراكك ومحركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والأخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طورة فإن ذلك في محال ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدي طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذلاات الوجود الحاصل منه وتفطن في هذا الغلط ومن يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق ذلك وإذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الأرتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيدأ الأوهام ويحار وينقطع فإذا التوحيد اوالعجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه وهذا معنى ما نقل عن بعض الصديقين العجز عن الإدراك إدراك ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الأيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكه الطاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والأتصاف وشرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربه إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من ابناء المستضعفين لفر عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنو والصدقة فهذا إنما حصل له
461
من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربه إلى الله تعالى مقام آخر اعلى من الأول وهو الإتصاف بالرحمة وحصول ملكتها فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصير عن ذلك ولو دفع عنه ثم يتصدق بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به والعلم حاصل عن الأتصاف ضرورة وهو أوثق مبني من العلم الحاصل قبل الاتصاف وليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل ويتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق ويجيء العلم الثاني النافع في الآخرة فإن العلم الأول المجرد عن الأتصاف قليل الجدوى والنفع وهذا علم أكثر النظار والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشيء عن العادة واعلم ان الكمال عند الشارع في كل ما كلف به انما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه هو العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف وما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقق بها ثم إن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة قال صلى الله عليه وسلم في راس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة فإن الصلاة صارت له صفة وحالا فيها منتهى لذاته وقرة عينه وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون اللهم وفقنا واهدنا الصراط المستقيم الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد وهو العقيدة الإيمانية وهو الذي تحصل به السعادة وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو اصل التكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب أولها التصديق القلبي الموافق للسان واعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح وتندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الايمان الكامل لا يقارف المؤمن
462
معه صغيرة ولا كبيرة اذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الأنحراف عن مناهجه طرفة عين قال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وفي حديث هرقل لما سال أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم واحواله فقال في أصحابه هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه قال لا قال وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب ومعناه أن ملكه الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الأيمان وهي في المرتبة الثانية من العصمة لأن العصمه واجبة للأنبياء وجوبا سابقا وهذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم وتصديقهم وبهذه الملكة ورسوخها يقع التفاوت في الأيمان كالذي يتلى عليك من اقاويل السلف وفي تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه مثل أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وان الصلاة والصيام من الأيمان وأن تطوع رمضان من الأيمان والحياء من الإيمان والمراد بهذا كله الأيمان الكامل الذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعلى وأما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه فمن اعتبر أوائل الأسماء وحملة على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين ومن اعتبر أواخر الأسماء وحملة على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له في التفاوت وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنه اقل ما يطلق عليه اسم إلأيمان وهو المخلص من عهده الكفر والفيصل بين الكافر والمسلم فلا يجزي أقل منه وهو في نفسه حقيقه واحدة لا تتفاوت وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم واعلم أن الشارع وصف لنا هذا الأيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق وعين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا واعتقدادها في أنفسنا مع الإقرار بالسنتنا وهي العقائد التي تقررت في الدين قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الأيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره وهذه هي العقائد الأيمانية المقررة في علم الكلام ولنشر إليها مجلة لتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه فنقول إعلم أن الشارع لما أمرنا بلايمان بهذا الخالق الذي رد
463
الأفعال كلها إليه وأفرده به كما قدمناه أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال إلأتحاد والخلق ومريد وإلا لم يخصص شيء من المخلوقات ومقدر لكل كائن وإلا فالإرادة حادثة وانه يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته بالإيجاد ولو كان لأمر فان كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت ثم اعتقاد بعثه الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الايتاء بذلك وبيان الطريقين و أن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية وادلتها من الكتاب والسنة كثير وعن تلك الأدلة أخذها السلف وارشد إليها العلماء وحققها الائمة إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الاي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النقل فحدث بذلك علم الكلام ولنبين لك تفصيل هذا المجمل وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الايمان بها ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام آلصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها ثم وردت في القرآن اي أخرى قليلة توهم التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل وهذا معنى قول الكثير منهم إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله ولاتتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز ان تكون ابتلاء فيجب الوقف والأذعان له وشد لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه ففريق أشبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد واوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار وتغليب
464
آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية وجمع بين الدليلن بتاويلهم ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متنلقص وجمع بين نفي وإثبات إن كان بالمعقولية واحدة من الجسم وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتقاربة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق لا جعلهم لفظ الجسم اسما من اسمائه ويتوقف مثله على الأذن وفريق ومنهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وامثال ذلك أولى قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام واندفع ذلك بما اندفع به والأول ولم يبق في هذه الظاهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لأبن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ أبن عبد البر وغيرهم فإنهم يحرمون على هذا المغنى ولا تغمض عينيك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء وألف المتكلمون في التنزيه حدثت البدعة المعتزلة في تعميم هذه التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة ولإرادة والحياة زائدة على احكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام وهو مردود لعدم اشتراط البينة في مدلول هذا اللفظ وإنما هو إدراك المسموع أو المبصر وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها وخالقهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرف وتقي التشبيه واثبت الصفات
465
المعونة وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع واتلبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل ورد على المبتدعة في في ذلك كله متكلم معهم فيما مهدوه لهذا البدع من القول بالصلاح والأصلح ولتحسين والتنقيح كما العاقائد في البعثة واحوال الجنة والنر والثواب والعقاب وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة افمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان وأنه يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهده في ذلك لمن هي له وذكلك على الأمة وقصارى أمر إمامة أنها قضة مصلحة إجماعية ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام إما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل وإنا لأن سبب وضعه والخوص فيه وهو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي وكثر اتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره واخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذبهم ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الإدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وان العرض لا يقوم بالعرض وانه لا يبقى زمانين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الألة عليها وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول وحملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية إلا أن صور الأدلة تعتبر بها الأقيسة ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملة ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ منه المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماما لعقائدهم ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط يسير به الأدلة منها كما يسير من سواها ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي
466
أدلت إلى ذلك وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعات وإلهيات فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد إيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكبير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم واول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحي الغزالي رحمه الله وتبعه الإمام أبن الخطيب وجماعة قفوا اثرهم واعتمدوا وتقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلاسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحا من أشباه المسائل فيهما وأعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته وهو نوع من استدلالهم غالبا والجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات وهو بعض هذه الكائنات إلا أن نظرة فيها مخالف لنظر المتكلم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات وإنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك ولتشبيه عن تلك العقائد وإذا تأملت حال الفن في حدوثه وكيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر وكلهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا تتميز أحد الفنيين من الآخر ولا يحصل عليه طالبه من كسبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم إلا أن هذه الطريقة قد يغني بها بعض طلبه العلم للإطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها وأما محاذاة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو للطريقة القديمة
467
للمتكلمين واصلها كتاب الإرشاد وما حذوه ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائد فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب فإنها وإن وقع فيها مخالفة للإصلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا الأدلة إنما احتاجوا حين دافعوا وانصرفوا وأما لأن فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارئ عن كثير إيهامه وإطلاقه ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال ما هؤلاء فقيل قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص فقال نفي العيب حيث يستحل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدهم والله ولي المؤمنين