هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية واصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس ف إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفية وقال القشيري رحمه الله ولا يشهد لهذا الأسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس والظاهر أنه لقب ومن قال اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعد من جهة القياس اللغوي وقال كذلك من لصوف لأنهم لم يختصموا بلبسه قلت والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف
468
فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الأنسان بما هو إنسان إنما يتيمز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم وإدراك للأحوال القائمة من الفرج والحزن والقبض والبسط والرضى والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكا كان وإرادات وأحوال وهي التي يتميز بها الإنسان وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل على الإعياء وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وان شنشأ له عن كل مجاهد حال نتيجة تلك المجاهدة وتلك الحال إما إن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات ولا يزال المريد يرتقي من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة به للسعادة قال صلى الله عليه وسلم من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة فالمرتد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والأخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية فلهذا يحتاج المرتد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة وغاية أهل العبادات إذا لا ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامثال أو لا فظهر يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي يحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد
469
مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه وصار علم الشريعة على صنفين صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك فلما كتب العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الإقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيرى في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الأحياء فدون فيه أحكام الورع والإقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم وصار علم التصرف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأوصول وغير ذلك ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها عالما كشف حجاب الحس والإطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه واعان على ذلك الذكر فإنه كالعداء لتنمية الروح ولا يزال في نموه وتزيد إلى أن يصير بعد أن كان علما ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفتى الملائكة وهذا الكشف كثير ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق
470
الوجوه ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السلفية وتصير طوع إرادتهم فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن أشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بهدهم ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى الكشف الحجاب والمدارك التي وراء واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماته القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذواتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركهما حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها في العرش إلى الطش هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب بعد أن ذكر صورة الرياضة ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالشجرة وغيرهم من المرتاضين وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يشكل فيه معوجا على غير صورته وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا فالاستقامة للنفس كالإنبساط للمرأة فيما ينطبع فيها من الأحوال ولما غني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم وموجوداتهم وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم وليس البرهان والدليل بنلفع في هذا الطريق ردا وقوبلا إذ من قبيل الوجدانيات وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض
471
فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغاني شارح قصية أبن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة غير ويسمون هذا الصدور بالتجلي وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيحاء والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق ليعرفوني وهذا الكمال في افيحاء المتنازل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والخضرة والكمال والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمل من أهل الملة المحمدية وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق أخرى في الخضرة الهبائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمى هذذ المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والخضروات وهو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيله مقتضاه لغموضه ولغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب وكذلك ذهب أخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من ألول في تعلقه وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموارها والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كانت بها التركيب كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبتت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من
472
جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الجيوانية ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال وهو في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها الوهم والخيال الذي يظهر من كلامه ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك العقلي ف ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال وهو في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها الوهم والخيال الذي يظهر من كلامه ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال قالوا فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركة البشرية ولو قدر فقط مدركة فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدرك البشرية هذا ملخص رايهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لآنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن اعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الفالية عنا والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفية المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له بوهم هذه الوحدة وتسمى ذلك عندهم مقام الجميع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم
473
أن هؤلاء المتأخرين من المتصوفية المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبيعهم أبن العربي وابن سبعين وتلميذها أبن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل زاحد من الفريقين مذهب الأخر واختلط كلامهم وتشا بهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفية القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لأخر من اهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال جل الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به ثم قالوا بترتيب وجود بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى على رضي اللع عنه وهو من هذا المعنى أيضا وإلا فعلى رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو يكر وعمرو رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى عليه وسلم وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء ويؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصرفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصرفية فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير وستئر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسنه النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي
474
تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره كما قلناه وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجودها بكونها كما مر وثالثها التصرفات في العوالم والاكوان بأنواع الكرامات ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتاول فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ونجاسة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقيق بها هو غين السعادة واما الكلام في كرامات القوم وأخبراهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق وما احتج به الأستاذ أبو اسحاق الإسفرائيني من أئمة الشعرية على إنكارها لالتباسها فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به قالوا إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذا الكرامات وإنكارها نوع مكابرة وقد وقع للصحابة أكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور واما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه واللغاب لا تعطي له دولة على مرادهم منه لأنها لم توضع للمتعارف وأكثره من المحسوسات فينبغي أن لا تتعرض لكلامهم في ذلك وتتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبون معذور فمن
475
علم منهم فضله وإقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا أن العبارة عن المؤاخذ صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله ومن لم يعلم فضله ولا أشتهر فمواخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فموآخذ أيضا ولهذا افتى الفقهاء وأكابر المتصوفية بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحالة والله أعلم وسلف المتصوفية من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الأتباع والإقتداء ما استطاعوا ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يقدرون منه ويرون انه من العوالق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق أحادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدرك الإنسان وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون شيء مما يدركون بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الإتباع والإقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد والله الموفق للصواب