الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل الثاني عشر: في علم تعبير الرؤيا

هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها وأما الرؤيا والتعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف وربما كان في المملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن وكذلك ثبت عن الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه والرؤيا مدرك من مدارك الغيب وقال صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وقال لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا
476
الصالحة لا يراها الرجل الصالح أو ترى له وأول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه هل راى أحد منكم الليلة رؤيا يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزره وأما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي وهو البخار اللطيف المبعث من تجويف القلب المحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل افعال القوى الحيوانية وإحسانها فإذا أدركه الملاك بكثرة التصرف في افحساس بالحواس الخمس وتصريف القوى الظاهرة وغشى سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انجس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستحم بذلك لمعاودة فتعاد فتعطلت الحواس الظاهر كلها وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك وإنما يمنع من تعقله للمدرك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه فلو قد خلا هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كل مدرك فإذا اتجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللأئقة من عالمه وإذا ادرك ما يدرك من عواللمه رجع إلى بدنه إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يملكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية والمدارك الجسماني للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال فإنه يينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال وكذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيرتقي التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطه بينهما ولذلك إذا ادركت النفس من عالمها ما تدركه القته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له ويدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنه محسوس فينتزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي والخيال أيضا واسطة هذه حقيقة
477
الرؤيا ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم ولكن إن كان كانت الصور منزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور في الحافظة التي كان الخيال أدعها إياها منذ اليقظة فهو رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وإلقاه إلى الخيال قصورة فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا انه رأى البحر أو الحية فينظر المعتبر بقوة التسبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وإن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعيين له المدرك فيقول مثلا هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه النساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك ومن المربى ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا يفتقر إلى تأويل والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيكان هي الأضغاث وعلم أن الجبال إذا القى إليه الروح مدركة فإنما يصوره في القوالب المعتاد للحس وما لم يكن الحس أدركه قط فلا يصور فيه فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذا وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المستموعات والمشمومات وليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير وفسد قانون ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعتبر عبارة ما يقص عليه وتأويله كما يقولونه البحر يدل على السلطان وفي موضع ىخر يقولون البحر يدل على الغيظ وفي موضع آخر يقولون البحر يدل على الهم والأمر الفادح ومثل ما يقولون الحية تدل على العدو وفي موضع آخر يقولون هي كاتم سر وفي موضع آخر يقولون تدل على
478
الحياة وأمثال ذلك فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي يتعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في المنام ومنها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصة التي خلقت فيه وكل ميسر لما خلق له ولم يزل هذا العلم متنافلا بين السلف وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها الناس لهذا العهد وألف الكرماني فيه بعده ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا والمتداول بين اهل المغرب لهذا العهد كتب أبن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع وغيره وكتاب الإشارة للسالمي وهو علم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما وقع في الصحيح والله علام الغيوب