وأما العلوم العقلية التي هي طبيعة للأنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجخ النظر فيها إلى أهل الملل كلهم ويستوون في مداركهم ومباحثهم وهي موجودة في النوع الإنسانئ منذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم الأول علم المنطق وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكرة ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية والنفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي والنفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو الثاني منها وإما إن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويبسمونه العلم الإلهي وهو الثالث منها والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير ويشتمل على أربعة علوم وتسمى التعاليم أولها الهندسة وهو النظر في المقادير على الإطلاق إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط أو ذوز بعدين وهو السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو
479
الجسم التعليمي ينظر في هذه المقادير وما يعرض لها إما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض وثانيها علم الآرتماطبقي وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد ويؤخذ من الخوارص والعوارض اللاحقة وثالثها علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنعم وبعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته معرفة ثلاحين الغناء ورابعها الهيئة وهو وتعين الأشكال للإفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل موكب من السيارات والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإذ بارها فهذا أصول العلم والفلسفة وهي سبعة المنطق وهو المتقدم منها وبعده التعاليم قالارثما طبقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه فمن فروع الطبيعيات الطب ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأرباح وهي قوانبن الحساب حركات الكواكب والمعاملات ومن فروع الهيئة الأرباح وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك ومن فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجومية ونحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها وأعلم أن اكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتنان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم وكان للكذابيين ومن قبلهم من السرياينين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان فاختص بها القبط وطمي بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البراري بصعيد مصر ثم تتابعت الملك بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلوا هذه الصنائع والله أعلم بصحتها مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختيارها وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ونطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك ولقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم
480
حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى إلى كتبهم وعلومهم مما لا يأخذوه الحصر ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد أبن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقلها للمسلمين فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه فإن يكن ضلالا فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا وكان لهذا العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم واختص فيها المشاءون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفردوسي وتامسيطون وغيرهم وكان أرسطو معلما للأسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من بين أيديهم وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيه صيتا وكان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة وباقية في خزائنهم قد ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيهم ثم جاء الأسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم تشوقوا إلى الإطلاع على هذه العلوم الحكيمة بما سمعوا من الأساقفة والأقيسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فيها فبعث إليه بكتاب أو قليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون وأطلعوا على ما فيها مازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأدوا الرسل على ملوك الروم
481
في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذفوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول بوقوف الشهرة عنده ودونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد أبو بكر الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقف الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي من اهل الأندلس وتلميذه ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما حتجوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه ولو شاء الله ما فعلوه ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وانهم على بج من العلوم العقلية لتوفير عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشهر بسعد الدين التفازاني منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكه راسخة في هذه العلوم وفي أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية وقدما عالية في سائر الفنون العقلية والله يؤيد بنصره من يشاء كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودويتها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما شاء ويختار