الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل 21: في علم الالهيات

495

وهو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات ثم كيفية صدرو الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوفقهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وغن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم وراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس ولحظة ابن سينما في كتاب الشفاء والنجا وكذلك لحظة ابن رشد من حكماء الأندلس ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائلة بمسائلها فصارت كأناها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلصوها فناد واحد قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام أبن الخطيب في المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبي ذلك على الناس وهو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع غفيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت لا به فإن العقل معزول عن الشرع وانظاره وما يحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فالتعليل بالدليل بعد إن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد إن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدها وكثير ما بين المقامين وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية
496
فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية قد تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها فإذا أهدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن تقدمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضة بل نعتمد ما أمرنا اعتقادا وعلما ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية ومحاذاة العقائد السلفية بها وأما النظر في مسائل الطبيعيات ولإلهيات بالتصحيح والبطلان من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين فاعلم ذلك لتمييز به بين الفنيني فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنما جاء الألتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء الطلب بالدليل وليس كذلك بل إنما هو رد على المتحدثين والمطلوب مفروض الصدق معلومة وكذا جاء المتأخرون من علاة المتصوفية المتكلمين بالمواجد أيضا فخلصوا مسائل الفنيين بفنهم وجعلوا الكلام فيها كلها مثل كلامهم في النبواءات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متعايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفية لأنهم يدعون فيها الواجدون ويفرون عن الدليل والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه وتبينه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقسم والله أعلم بالصواب