أركانه أربعة وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة وتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر والولاه الجهل به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر والولاه لجهل أصل الإفادة وكان من حق علم اللغة والتقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهلة الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك
546
اللغة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق علم النحو إعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصودة وتلك العبارة فعل لساني فلا بد أن تصبر ملكه متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن المملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني من المجرور أعني المضاف ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلألة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما لقدرة بكلام العرب وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم أوتين جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصار فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى اليها السمع من المخالفات التي للمستعر بين والسمع أبو الملكت اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبة الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسمية إعرابا وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا وأمثال ذلك وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو وأول من كتب فيها أبو الأسود الدولي من بني كنانة ويقال باشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى
547
ضبطها بالقوانين الحاضرة المسترأة ثم كتب فها الناس من بعده إلىأن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد وكان الناس أحوج إليها لذهاب تلك الملكة من العرب فهذب الصناعة وكمل أبوابها وأخذها عنه سيبوية فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشوهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعليمن يحذون فيها حذو الإمام في كتابه ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلا في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب وكثرت الأدلة والحجاج بينهم وتباينت الطرق في التعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلمين وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثير من ذلك على المتعلمين وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثير من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له وربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرىوالصغرى وابن مطعي في الأرجوزة الألفية وبالجملة فالتاليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك وقد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب هذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة وتكلم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصناعة من المتكرر في اكثر أبوابها وسمأه بالمغني في الإعراب وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها فوقفنا منه على علم الجم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها وكأنه ينجو في طريقته منحاة أهل الموصل الذي اقتفوا أثر أبن جني واتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته وأطلاعه والله يزيد في الخلق ما يشاء
548
علم اللغة هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربيفي الحركات المسماة عند أهل النحو بالأعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المستعمر في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي ألف فيها كتاب العين فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وهو غاية ما ينتهى إليه التركيب في اللسان العربي وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك ثم الثالث والرابع ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة وعشرين لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية وهي ستة وعشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم وكذلك في الرباعي والخماسي فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدا بحروف الحلق ثم بعده من حروف الحنك ثم الأضراس ثم
549
وجعل حروف العلة آخر وهي الحروف الهوائية وبدا من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابة بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ ثم بين المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرباعي والخماسي أثر لقلة استعمال العرب له لثقله ولحق به الثنائي لقلة دورانه وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت اوضاعه أكثر الدورانة وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه احسن استيعاب وأوعاه وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كله وكثير من شواهد المستعمل ولخصه للحفظ أحسن تلخيص وألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداء منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لأضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم وحصر اللغة اقتداء بحصر الخليل ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من اهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبوابأو لكلها إلا أن وجه الحصر فيها خفي ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة ثم لما كانت العرب تضع الشي على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظ أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال واحتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتى صار استعمال
550
في هذه كلها لحنا وخروجا عن لسان العرب واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي وأفرده في كتاب له سماه فقة اللغة وهو من اكد ما يأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها وهو أشد من اللحن في الإعراب وأفحش وكذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكلف بحصرها وإن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب لأكثر وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ والله الخلاق العليم لا رب سواه علم البيان هذا علم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف وإما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولك مقام عندهم يختص به بعد كمال الإعراب والإبانه ألا ترى أن قولهم زيد جاءني لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال جاءني زيد أفاد أن أهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص
551
المجيء المسند وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم زيد قائم وإن زيد قائم وإن زيد القائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن والثاني المؤكد بإن يفيد المتردد والثالث يفيد المنكر فهي مختلفة وكذلك تقول جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية وهي التي لها خارج تطابقه أولا إنشائيه وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول زيد كثير الرماد وتريد ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضي مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى علم البلاغة والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما وأمثال ذلك وسمى عندهم علم البديع وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين أسم
552
وهو اسم الصنف الثاني لأن الاقدمين أول من تكلموا فيه ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامه وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته وهذب مسائلة ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من الترتيب وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص هو أصغر حجما من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوعوا أنواعا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ وأن علم البديع سهل المآخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما وممن ألف في البديع من أهل أفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور وجرى كثير من أهل أفريقية والأندلس على منحاه واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة هي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه وإنما يدرك بعض الشيء منه كان له ذواق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبالغة أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجها بذاته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه وأحوج ما يكون إلى هذا
553
المفسرون أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع والأهواء والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل علم الادب هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظور والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم فيجمعون لذلك من الكلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثه أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العرب مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاح صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن واركانه أربعة دواوين وهي أدب الكتاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ
554
النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها وكتب المحدثين في ذلك كثيرة وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما تابع للشعر إذا لغناء إنما هو تلحينه وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة وقد ألفت القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب واشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي أختارها المغنون للرشيد فأستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه ولعمرى إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر والأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان والله الهادي للصواب