الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل 42: في تفسير الذوق في مصطلح اهل البيان و تحقيق معناه و بيان انه لا يحصل للمستعربين من العجم

562

اعلم ان لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان وقد مر تفسير البلاغة وانها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في افادة ذلك للمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على اساليب العرب و انحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فاذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه امر التركيب حتى لا يكاد ينحو في غير منحى البلاغة التي للعرب وان سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بادنى فكر بل و يغير فكر الا بما استفاد من حصول هذه الملكة فان الملكات اذا استقرت ورسخت يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات ان الصواب للعرب في لغتهم اعرابا و بلاغة امر طبيعي و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك وانما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في باديء الراي انها جبلة وطبع وهذه الملكة كما تقدم انما تحصل بممارسة كلام العرب و كرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها اهل صناعة اللسان فان هذه القوانين انما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها وقد مر ذلك واذا تقرر ذلك مملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ الى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده ولا تهديه اليه ملكته الراسخة عنده واذا عرض عليه الكلام حائدا عن اسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم اعرض عنه و مجه و علم انه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع اهل القوانين النحوية
563
والبيانية فان ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا امر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم و مثاله لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فانه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الاعرب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شيء وانما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم واشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربي بين اجيالهم والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه اهل صناعة البيان وانما هو موضوع لادراك الطعوم لكن لما كان محل هذه المكلة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لادراك الطعوم استعير لها اسمه و ايضا فهو وجداني اللسان كما ان الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق واذا تبين لك ذلك وعلمت منه ان الاعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين الى النطق به لمخالطة اهله كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فانه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا امرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة اخرى الى اللسان و هي لغاتهم ان يعتنوا بما يتداوله اهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون اليه من ذلك و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها كما تقدم وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللسان المطلوبة ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء انما حصل احكامها كما عرفت وانما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد بالاعتياد والتكرر لكلام العرب فان عرض لك ما تسمعه من ان سيبويه و الفارسي و الزمخشري و امثالهم من فرسان الكلام كانوا اعجاما مع حصول هذه الملكة فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط و اما المربى والنشاة فكانت بين اهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في اول نشاتهم من العرب الذين نشأوا في اجيالهم
564
حتى ادركوا كنه اللغة و صاروا من اهلها فهم وان كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة والكلام لانهم ادركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها و لم تذهب اثار الملكة و لا من اهل الامصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته و اليوم الواحد من العجم اذا خالط اهل اللسان العربي بالأمصار فاول ما يجد تلك الملكةالمقصودة من اللسان العربي ممتحية الاثار ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب واشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقل ان يحصل له ما قدمنا من أن الملكة اذا سبقتها ملكة اخرى في المحل فلا تحصل اللسان العجمي بالكلية وذهب الى تعلم هذه الملكة بالمدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر و ربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلطة او مغالطة وانما حصلت له الملكة ان حصلت في تلك القوانين البيانية وليست من ملكة العبارة في شيء و الله يهدي من يشاء الى طريق مستقيم