الفصل السادس: في العلوم واصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الاحوال وفيه مقدمة ولواحق - الفصل 44: في انقسام الكلام الى فني النظر و النثر

اعلم ان لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر و المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون اوزانه ملها على روي واحد وهو القافية و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمكل على فنون و مذاهب
567
في الكلام فاما اشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و اما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كلل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام اطلاقا و لا يقطع اجزاءه بل يرسل ارسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها و يستعمل في الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم و اام القران و ان كان كل من المنثورالا انه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا بل تفصيل ايات ينتهي الى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلم في الاية الاخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم و قال قد فصلنا الايات لقوم و يسمى اخر الايات منها الفواصل اذ ليست اسجاع و لم يلتزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي ايضا قواف و اطلق اسم المثاني على ايات القران كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بام القران لغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه و اعلم ان لكل واحد من هذه الفنون اساليب تختص به عند اهله و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المتختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و امثال ذلك و قد استعمل المتاخرون اسليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الاسجاع و التزام التقفية و تقديم النسنسيب بين الايدي الاغراض و صار هذا المنثور اذا تاملته من باب الشعر و فنه و لم يقترفا الا في الموازن و استمر المتاخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية وقصروا الإستعمال في المنثور كله علىهذا الفن الذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصا أهل المشرق وصارت المخاطبات السلطانية لهذه العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الاسلوب الذي اشرنا اليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من احوال المخاطب و المخاطب و هذا الفن المنثور المقفى ادخل المتاخرون فيه اسليب الشعر فوجب ان تنزه المخاطبات السلطانية عنه اذ اساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الاطناب في
568
الاوصاف و ضرب الامثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة الى ذلك في الخطاب و التزام التقفية ايضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلكان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب ينافي ذلك و يباينه و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو اطلاق الكلام و ارساله من غير تسجيع الا في الاقل النادر و حيث ترسله الملكة ارسالا من غير تكلف له ثم اعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فان المقامات مختلفة و لكل مقام اسلوب يخصه من اطناب و ايجاز او حذف او اثبات او تصريح او اشارة او كناية و استعارة و مام اجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على اساليب الشعر فمذمكوم و ما حمل عليه اهل العصر الا استيلاء العجمية على السنتهم و قصورهم لذلك عن اعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد امده في البلغة و انفساح خطوبه و ولعوا بها المسجع يلفقون به ما نقصهم من نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالاسجاع و الاقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك و اكثر من اخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر انحاء الكلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى انهم ليخلون بالاعراب في الكلمات و التصريف اذا دخلت لهم في تجنيس او مطابقة لا يجتمعان معها فيربحون ذلك الصنف من التجنيس و يدعون الاعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس فتامل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالاى اعلم