الحجاج بن يوسف

أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي- وهو ثقيف - ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب، وقال: فولد منبه بن النبيت قسياً، وهو ثقيف فيما يقال والله أعلم، فمن ينسب ثقيفاً إلى إياد فهذا هو نسبهم، ومن نسبهم إلى قيس فيقول: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، ويقولون: كانت أم قسي أميمة بنت سعد بن هذيل عند منبه بن النبيت، فتزوجها منبه بن بكر، بجاءت بقسي معها من الإيادي والله أعلم الثقفي عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، فلما توفي عبد الملك وتولى الوليد أبقاه على ما بيده.

وقال المسعودي في كتاب مروج الذهب: إن أم الحجاج الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب، فدخل عليها مرة سحراً فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لم بعثت إلي بطلاقي؟ هل لشيء رابك مني؟ قال: نعم، دخلت عليك في السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك؛ فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثقفي، فولدت له الحجاج مشوهاً لا دبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة المقدم ذكره، فقال: ما خبركم؟ قالوا: بني ولد ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جدياً أسود وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان اليوم الثالث فاذبحوا له تيساً أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسود سالخاً فأولغوه دمه، واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، قال: ففعلوا به ذلك؛ فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في أول أمره؛ وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره.

وذكر ابن عبد ربه في العقد أن الفارعة المذكورة كانت زوجة المغيرة ابن شعبة، وانه هو الذي طلقها لأجل الحكاية المذكورة في التخلل؛ وذكر أيضاً أن الحجاج وأباه كان يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته إلى أن رآى عبد الملك انحلال عسكره وأن الناس لايرحلون برحيله ولاينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع، فقال له: إن في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج ابن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ قالوا له: انزل يا ابن اللخناء فكل معنا، قال لهم: هيهات، ذهب ما هنالك، ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوفهم في العسكر وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكياً، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج الذي كان في شرطتي ضرب غلماني وأحرق فساطيطي، قال: علي به، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا ما فعلت، قال: ومن فعل؟ قال: أنت فعلت، إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له، فأخلف لروح ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.

وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال: إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر.

وخطب يوماً فقال في أثناء كلامه: أيها الناس، إن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال: ريحك يا حجاج، ما أصفق وجهك وأقل حياءك! فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت علي، فقال له: أتجترئ على الله فلا ننكره، ونجترئ عليك فتنكره؟ فخلى سبيله.

وذكر أبو الفرح ابن الجوزي في كتابه تلقيح فهوم أهل الأثر أن الفارعة أم الحجاج هي المتمنية، ولما تمنت كانت تحت المغيرة بن شعبة، وقص قصتها، ونذكرها مختصرة، وهي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة في المدينة فسمع امرأة تنشه في خدرها:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

 

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

 

فقال عمر رضي الله عنه: لا أرى معي في المدينة رجلاً تهتف به العوائق في خدورهن؛ علي بنصر بن حجاج، فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجباً وأحسنهم شعراً، فقال عمر رضي الله عنه: عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك، فأخذ من شعره فخرج له وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال: اعتم، فاعتم ففتن الناس بعينيه، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا تساكنني ببلدة أنا فيها، قال: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي؟ قال: هو ما أقول لك، وسيره إلى البصرة؛ هذه خلاصة القصة، وبقيتها لا حاجة إلى ذكره.
ونصر المذكور ابن حجاج بن علاط السلمي، وأبوه صحابي رضي الله عنه، وقيل: إن المتمنية هي جدة الحجاج أم أبيه، وهي كنانية.


وحكى أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس غبروا يقرؤون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفاً واربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، فغبر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، فكان مع استعمال النقط أيضاً يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط الإعجام، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توف حقوقها اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين. حكى القاضي أبو الفرح المعافى في كتاب الجليس والأنيس قال: لما أراد الحجاج بن يوسف الخروج من البصرة إلى مكة شرفها الله تعالى: خطب الناس فقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمد ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى أن يقيل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ إلا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف: لا أحسن الله له الصحابة، واني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة. قال أبو العباس المبرد في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي قال: بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج ابن يوسف قد قدم أميراً على العراق، فإذا به قد دخل المسجد متعمماً بعمامة غطى بها أكثر وجهه متقلداً سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:

 

أنا ابن جلا وطلاع الثـنـايا

 

متى أضع العمامة تعرفوني

 

ثم قال: والله يا أهل الكوفة والعراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بي لأنكم طال ما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). والله إني ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه؛ يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله لاؤدبتكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن، اقرأ عليهم يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني أفتقبله بدلاً مني؟ فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل: اتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه في عثمان بن عفان:

 

هممت ولم أفعل وكدت وليتنـي

 

تركت على عثمان تبكي حلائله

 

ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولاً فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه؛ فقال: ردوه، فلما رد قال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان رحمه الله تعالى بديلا ًيوم الدار؛ إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاً للمسلمين، يا حرسي اضربن عنقه؛ فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:

 

تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ

 

عميراً وإما أن تزور المهلبـا

 

وكان من قصة عمير بن ضابئ أن أباه ضابئ بن الحارث البرجمي وجب عليه حبس عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وأدب، وذلك أنه كان استعار كلباً من قوم فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحاشاً فرمى أمهم به، فقال في بعض كلامه:

 

فأمكم لا تتركوها وكلبكم

 

فإن عقوق الوالدات كبير

 

فاضطغن على عثمان رضي الله عنه ما فعل، فلما دعي ليؤدب شد سكيناً في ساقه ليقتل بها عثمان رحمه الله فعثر عليه فأحسن أدبه، ففي ذلك يقول: هممت ولم أفعل. ولما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وإعطاء الأموال، بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سرفك في الدماء وتبذير الأموال ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين لأحد من الناس، وقد حكم عليك في الدماء في الخطإ بالدية وفي العمد بالقود وفي الأموال بردها إلى موضعها ثم العمل فيها برأيه، وإنما أمير المؤمنين أمين الله وسيان عنده منع حق وإعطاء باطل، فإن كنت أردت الناس لك فما أغناهم عنك وغن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك عنهم، وسيأتيك من أمير المؤمنين لين وشدة، فلا يؤنسنك إلا الطاعة ولا يوحشنك إلا المعصية، وظن بأمير المؤمنين كل شيء إلا احتمالك على الخطأ، وإذا أعطاك الله الظفر بقوم فلا تقتلن جانحاً ولا أسيراً؛ وكتب في أسفل كتابه:

 

إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها

 

طلبت رضاي بالذي أنت طالبه

وتخشى الذي يخشاه مثلك هارباً

 

إلي فها قد ضيع الدر حالبـه

وإن تر مني غفـلة قـرشـية

 

فيا ربما قد غص بالماء شاربه

وإن تر مـنـي وثـبة أمـوية

 

فهذا وهذا كله أنا صاحـبـه

فلا تأمنني والحـوادث جـمة

 

فإنك مجزى بالذي أنت كاسبه

ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعـد

 

يقوم بها يوم علـيك نـوادبـه

ولا ترفعن للناس حقاً علمـتـه

 

ولا تغضبن، فاللين للناس جانبه

 

فأجابه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الدماء وتبذيري للأموال، ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هم أهله وما قضيت في أهل الطاعة ما استحقوه، فإن كان قتلي أولئك العصاة سرفاً وإعطائي أولئك المطيعين تبذيراً فليسوغني أمير المؤمنين ما سلف وليحد لي حداً أنتهي إليه إن شاء الله تعالى، ولا قوة إلا بالله، ووالله ما سلبت نعمة إلا بكفرها ولا تمت إلا بشكرها، ولا أصبت القوم خطأ فأديهم ولا ظلمتهم فأقاد بهم، ولا أعطيت إلا لك ولا قتلت إلا فيك، وأما ما أتاني من أمريك فأبينهما عزة أعظمها محنة، وقد عبأت للعزة الجلاد وللمحنة الصبر؛ وكتب في أسفل كتابه:

 

إذا أنا لم أبـغ رضـاك وأتـقـي

 

ذاك فيومي لا تزول كـواكـبـه

وما لامرىء بعد الخـلـيفة جـنة

 

تقيه من الأمر الذي هو كاسـبـه

أسالم من سالمت مـن ذي هـوادة

 

ومن لم تسالمه فإني مـحـاربـه

إذا قارف الحجاج منك خـطـيئة

 

فقامت عليه في الصباح نـواديه

إذا أنا لم أدن الشفيق لصـنـعـه

 

وأقص الذي تسري إلي عقاربـه

فقف لي على حد الرضى لاأجوزه

 

مدىالدهر حتى يرجع الدرحالبـه

وإلا فدعني والأمـور فـإنـنـي

 

شفيق رقيق أهلتـه تـجـاربـه

 

فلما قرأ عبد الملك كتابه قال: خاف أبو محمد صولتي ولن أعود إلى ما يكره.


وذكر حماد الراوية أن الحجاج سهر ليلة بالكوفة فقال لحرسه: ايتني بمحدث من المسجد، فأتاه بسبرة بن الجعد، فدخل وسلم بلسان ذلق وقلب شديد، فقال له الحجاج: ممن الرجل؟ قال: من بني شيبان، قال: ما اسمك؟ قال: سبرة بن الجعد، قال: يا سبرة، قرأت القرآن؟ قال: قد جمعته في صدري، فإن عملت به فقد حفظته وإن خالفته فقد ضيعته، فاتخذه الحجاج سميراً، فما كان يتطلب شيئاً من الحديث إلا وجد عنده منه. وكان يرى رأي الخوارج، وكان من أصحاب قطري بن الفجاءة المزني التميمي، والفجاءة أمه، وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجل من تميم. وكان قطري يومئذ يحارب المهلب، فبلغ قطرياً ما كان من سبرة مع الحجاج، فكتب إليه من جملة قصيدة:

 

لشتان ما بين ابن جعد وبيننا

 

فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه واخذ سلاحه ولحق بقطري؛ وطلبه الحجاج فلم يقدر عليه ولم يرع الحجاج إلا وكتاب فيه شعر قطري الذي كان كتب به إليه وفي أسفل الكتاب أبيات من جملتها:

 

فمن مبلغ الحجاج أن سمـيره

 

قلى كل دين غير دين الخوارج

 

فطرح الكتاب إلى عنبسة بن سعيد وقال: هذا من سميري الشيباني وهو خارجي ولا نعلم به. قال القاضي أبو الرفج المعافى: حدث العتبي قال: كانت امرأة من الخوارج يقال لها فراشة، وكانت ذات نية في رأي الخوارج تجهز أصحاب البصائر ولم يظفر بها، وكان الحجاج يدعو الله أن يمكنه منها أو من بعض من جهزته فراشه، فمكث ما شاء الله ثم جيء برجل فقيل له: هذا ممن جهزته فراشة، فخر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: يا عدو الله، قال: أنت أولى بها يا حجاج، قال: أين فراشة؟ قال: مرت تطير منذ ثلاث، قال: أين تطير؟ قال: ما بين السماء والأرض، قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله؟ قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب الله، قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك، قال: وما تصنع بها؟ قال: أضرب عنقها، قال: ويلك يا حجاج ما أجهلك، أدلك وأنت عدو الله على من هو ولي الله؟ لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: على ذلك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين، قال: ولم، لا أم لك؟ قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت ما بين السماء والأرض، قال: وما هي؟ قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين، فقال لجلسائه: ما رأيكم فيه؟ قالوا: نرى أن تقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد، قال: ويحك يا حجاج، جلساء أخيك أحسن مجالسة من جلسائك، قال: وأي أخوي تريد؟ قال: فرعون حين شاور في موسى فقالوا: أرجئه وأخاه، وأشار هؤلاء عليه بقتلي، قال: فهل جمعت القرآن؟ قال: ما كان مفرقاً فأجمعه، قال: أقرأته ظاهراً؟ قال: معاذ الله بل قرأته وأنا أنظر إليه، قال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي، قال: إذن أعجلك إلى النار، قال: لو علمت أن ذلك إليك أحسنت عبادتك واتقيت عذابك ولم أبغ خلافك ومناقضتك، قال: إني قاتلك، قال: إذن أخاصمك لأن الحكم يومئذ إلى غيرك، قال: نقمعك عن الكلام السيء؛ يا حرسي اضرب عنقه، واومأ إلى السياف الا تقتله، فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك رشح جبينه، قال: جزعت من الموت يا عدو الله؟ قال: لا يا فاسق ولكن أبطأت علي بما فيه راحمة؛ قال: يا حرسي، أوجب جرحه، فلما أحسن بالسيف قال: لا إله إلا الله، والله لقد أتمها ورأسه في الأرض.


وقال القاضي: لما حمل الأسري إلى الحجاج وهو حينئذ بواسطة القصب قبل أن يبني مدينة واسط قال لحاجبه: قدم إلي سيدهم فيروز بن الحصين، فقال: له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ قال: فتنة عمت الناس، فقال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا؟ قال: اكتبها أولاً، قال: ثم أنا آمن على دمي؟ قال: اكتبها ثم أنظر، قال: اكتب يا غلام، ألف ألفي الف، حتى ذكر مالاً كثيراً، فقال الحجاج: أين هي وعند من هي؟ قال: لا والله لا جمعت بين مالي ودمي، فأمر الحجاج فعذب بأنواع العذاب، وكان من جملة ما عذب به أن يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يجر حتى يجرح جسده ثم ينضح عليه الخل والملح؛ فلما أحس بالموت قال: إن الناس لا تشكن أني قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال، فأخرج قصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني؛ أنا فيروز، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين أحد منه درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب؛ فأمر به الحجاج فقتل.


وجلس الحجاج يوماً لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، فقام رجل منهم فقال: أصلح الله عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، قال: سبك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، فقال: من يعلم ذلك؟ قال: أنشد الله رجلاً سمع ذلك إلا شهد به، فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلوا عنه، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إياك، قال: ولنخل عنه لصدقه.


قال أبو الحسن المدائني: لما ظفر الحجاج بأصحاب ابن الأشعث، جلس لضرب أعناقهم عامة النهار، فأتي آخرهم برجل من بني تميم قال له: والله يا حجاج لئن كنا قد اسأنا في الذنب لما أحسنت في العقوبة، فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما فيها رجل يحسن مثل هذا؟ وعفا عنه. ولما حضر الشعبي بين يدي الحجاج سلم بالإمرة ثم قال: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً، قد والله خرجنا عليك واجتهدنا كل الجهد فما ألونا فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء، ولقد نصرك الله علينا وظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول ما فعلت وما شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف.


وقال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنك شاهد الدنيا عن غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
وكان إبراهيم النخعي هارباً من الحجاج مدة أيامه ثم ظهر بعده فقيل له: أين كنت؟ قال: بحيث يقول الشاعر:

 

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

 

وصوت إنسـان فـكـدت أطـير

 

وذكر الحسن بن محمد بن هلال الصابئ أن الحجاج انفرد يوماً عن عسكره فمر برجل يسقي ضيعة له، فقال له: كيف حالكم مع أميركم؟ فقال: لعنه الله، المبيد المبير الحقود، عجل الله الانتقام منه، فقال له: تعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا الحجاج، فرأى الرجل أن دمه قد طاح فرفع عصاً كانت معه وقال: أتعرفني؟ أنا أبو ثور المجنون، وهذا يوم صرعي، وأزبد وأرغى وهاج وأراد أن يضرب رأسه بالعصا، فضحك منه وانصرف.


وكان الحجاج كثيراً ما يسأل القراء، فدخل عليه يوماً رجل فقال له: ما قبل قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل). فقال: (قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)، قال: فما سأل أحداً بعدها.


وخطب في يوم جمعة فأطال الخطبة، فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر به إلى الحبس، فأتاه آل الرجل فقالوا: إنه مجنون، فقال: إن أقر على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله، فقال الرجل: لا والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني.
وممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج وهو الذي يقول:

 

تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت

 

به زينب في نسوة عـطـرات

 

فلما أتي به الحجاج قال: والله أيها الأمير إن قلت إلا خيراً، إنما قلت:

 

يخضبن أطراف البنان من التقى

 

ويخرجن شطرا الليل معتجرات

قال: فأخبرني عن قولك:

 

ولما رأت ركب النميري أعرضت

 

وكن من أن يلقـينـه حـذرات

 

ما كنتم؟ قال: كنت على حمار هزيل ومعي صاحب على اتان مثله، فعفا عنه.


ولما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء والعويل، فأمر الحجاج بالناس فجمعوا إلى المسجد ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل مكة، بلغني بكاؤكم واستفظاعكم قتل عبد الله بن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها وخلع طاعة الله واستكن إلى حرم الله، ولو كان شيء مانعاً للقضاء لمنعت آدم حرمة الجنة لأن الله تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه واسجد له ملائكته واباحة جنته، فلما كان منه ما كان أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، فاذكروا الله يذكركم، ونزل.


قال مالك بن دينار: ربما سمعت الحجاج يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم فوقع في نفسي أنهم يظلمونه لبيانه وحسن تخلصه للحجج. قال القاضي المعافى بن زكريا في كتاب الجليس والأنيس: حدث الزبير ابن بكار عن الزهري قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتل عبد الله ابن الزبير استحضر إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة، فلم يزل على حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك زائراً له فرج معه فعادله لا يترك في بره وإجلاله وتعظيمه شيئاً، فلما حضر باب عبد الملك حضر به معه، فلما دخل على عبد الملك لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له والله فيها نظيراً في كمال المروءة والأدب والرئاسة والديانة والستر وحسن المذهب والطاعة والنصيحة مع القرابة ووجوب الحق، إبراهيم ابن طلحة بن عبيد الله، وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتلقاه ببشرك وتفعل به ما يفعل بمثله ممن كانت مذاهبه، فقال عبد الملك: ذكرتنا حقاً واجباً ورحماً قريبة؛ يا غلام ايذن لإبراهيم بن طلحة، فلما دخل قربه حتى أجلسه على فراشه ثم قال له: يا ابن طلحة إن أبا محمد أذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة من خاص أمرك ولا عامه إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين، إن أولى الأمور أن تفتح بها الحوائج وترجى به الزلف ما كان لله عز وجل رضى ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وأن عندي نصيحة لا أجد أبداً من ذكرها ولا يكون البوح بها إلا وأنا خال فأخلني ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبي محمد؟ قال: نعم، قال: قم يا حجاج، فلما جاوز الستر قال: قل يا ابن طلحة نصيحتك، قال: الله يا أمير المؤمنين، قال: الله، قال: إنك عمدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل فوليته الحرمين وفيهما من فيهما وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار والموالي المنتسبة الأخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء الصحابة يسومهم الخسف ويقودهم العسف ويحكم فيهم بغير السنة ويطؤهم بطغام من أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله ينجيك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصك إذا جاثاك للخصومة في أمته؟ أما والله لا تنجو هناك إلا بحجة تضمن لك النجاة فأبق على نفسك أو دع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فاستوى عبد الملك جالساً وكان متكئاً فقال: كذبت لعمر الله ومنت ولؤمت فيما جئت به، قد ظن بك الحجاج ما لم يجده فيك وربما ظن الخير لغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن الحاسد، قال: فقمت والله ما أبصر طريقاً؛ فلما خلفت الستر لحقني لاحق من قبله فقال للحاجب: احبس هذا الرجل وأدخل أبا محمد الحجاج، فلبثت ملياً وأنا لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الآذن فقال: قم يا ابن طلحة فادخل، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وأنا داخل وهو خارج، فاعتنقني وقبل ما بين عيني ثم قال: إذا جزى الله المتآخيين بفضل تواصلهما فجزاك الله أفضل ما جزى به أخاً، فو الله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك، قال: فقلت: يهزأ بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني في مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة لعل أحداً من الناس شاركك في نصيحتك، قال: قلت: لا والله ولا أعلم أحداً كان أظهر عندي معروفاً ولا أوضح يداً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحداً بديني لكان هو ولكني آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولو أردت الدنيا لكان لي في الحجاج أمل، فقال: قد علمت ذلك، وقد أزلت الحجاج عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استصغاراً ووليته العراقين لما هناك من الأمور التي لا يرحضها إلا مثله وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية له عليهما استزادة له ليلزمه من ذمامك ما يؤدي به عني عليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع تقريظه إياك ويدك عنده، قال: فخرجت على هذه الجملة.


 وروي عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إلي الحجاج ازارمرد ابن الهربذ وأمرني أن استخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد إن لك شرفاً وديناً وإني لا أعطي على القسر شيئاً وارفق بي، قال ففعلت، فأدى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف؛ قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه فانتزعه من يدي ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب فدق يديه ورجليه فلم يعطهم شيئاً؛ قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق فإذا به معروضاً على حمار مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته وتذممت فملت إليه فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء فأحسبت وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وها هنا خمسمائة ألف درهم عند فلان فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أتيت فاستمع أحدثك؛ حدثني بعض أهل دينك عن نبيك صلى الله عليه وسلم قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في حينه، وجعل الماء عند سمحائهم واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم وأمطرهم المطر في غير حينه؛ قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج فأمرني بالمصير إليه، فألفيته جالساً على فرشه والسيد منتضى بين يديه، فقال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك، فقلت: والله ما بي إلى الدنو من حاجة وفي يد الأمير ما أرى، فأضحك الله سنه وأغمد عني سيفه فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الأمس؟ فقلت: والله أيها الأمير ما غششتك منذ استنصحتني ولا كذبتك منذ استخبرتني ولا خنتك منذ ائتمنتني، ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي عنده المال أعرض عني بوجهه وأومأ إلي بيده ثم قال: لا تتمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث.


ويقال: كان الحجاج إذا استغرب ضاحكاً وإلى بين الاستغفار، وإذا صعد المنبر تلفع بمطرفه ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع ثم يتزيد في الكلام حتى يخرج يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها من في أقصى المسجد؛ وكان يطعم كل يوم على ألف مائدة ثريد وطرف من شواء وسمكة طرية ويطاف به في محفة على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشام اكسروا الخبز لئلا يعود عليكم؛ وكان له ساقيان أحدهما يسقي الماء والعسل والآخر يسقي اللبن.


ولما دخل الحجاج إلى مكة اعتذر إلى أهلها لقلة ما وصلهم به، فقال قائل منهم: إنا والله لا نعذرك وأنت أمير العراقين وابن عظيم القريتين، وذلك أن عروة بن مسعود ولده من قبل أمه، والقريتان مكة والطائف. أمر الحجاج ابن القرية أن يأتي هند بنت أسماء فيطلقها بكلمتين ويمتعها بعشرة آلاف درهم، فأتاها فقال لها: إن الحجاج يقول لك كنت فبنت، وهذه عشرة آلاف درهم متعة لك، فقالت: قل له فما حمدنا وبنا فما ندمنا، وهذه الدراهم مشاركتك إياي بطلاقي. ووفد الحجاج على الوليد بن عبد الملك في خلافته فوجده في بعض نزهه فاستقبله، فلما رآه ترجل له وقبل يده وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية، فقال له الوليد: اركب أبا محمد، فقال: يا أمير المؤمنين دعني أستكثر من الجهاد في خدمتك فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنه، فعزم عليه الوليد حتى ركب. ودخل الوليد داره فتغلل في غلالة ثم أذن للحجاج فدخل في حالة تلك وأطال الجلوس عنده إذ جاءت جارية فساررته وانصرفت، فقال الوليد للحجاج: أتدري ما هذا أبا محمد؟ قال: لا والله، قال: بعثت ابنة عمي أم البنين بنت عبد العزيز تقول: ما مجالستك هذا الأعرابي المستلئم في السلاح وأنت في غلالة، فأرسل إليها إنه الحجاج، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك ولا مكايدة عدوك ولا تطمعهن في غير أنفسهن ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن وإياك ومشاروتهن، وأكثر من ذلك. ثم نهض الحجاج فخرج ودخل الوليد على أم البنين فأخبزها بمقالة الحجاج فقالت: أحب أن تأمره غداً بالتسليم علي، أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد صر إلى أم البنين فسلم عليها، فقال: اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين، قال: لابد منه؛ فمضى الحجاج إليها فحجبته طويلاً ثم أذنت له وتركته قائماً ولم تأذن له في الجلوس ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك أهون خليقته ما ابتلاك برمي الكعبة وقتل ابن ذات النطاقين؛ فأما ابن الأشعث فقد والله وإلى عليك الهزائم حتى لذت بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام وأنت في أضيق من القرن فأظلتك رماحهم ولطالما نفض نساء أمير المؤمنين المسك عن غدائرهن وبعنه في الأسواق حتى أخرج في أرزاق البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذل من البقعة، وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع عن بلوغ أوطاره من نسائه فإنه غير قابل منك ولا مصغ إلى نصيحتك، فإن كن يفرجن عن مثلك فما أولاه بالقبول منك؛ ثم قالت لجواريها: أخرجوه عني، فدخل على الوليد من فوره فقال: يا أبا محمد، ما كنت فيه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها، فضحك الوليد حتى فحص برجليه ثم قال: يا أبا محمد أنها ابنة عبد العزيز.


وقيل أن أم البنين المذكورة كانت تهوى وضاح اليمن الشاعر، وكان جميلاً، وكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها، وإذا خافت وارته في صندوق عندها وأقفلت عليه؛ وهو القائل:

 

حتام نكتم حزننـا حـتـامـا

 

وعلام نستبقي الدموع علاما

يا رب أمتعني بطول بقـائهـا

 

واجبر بها الأرمال والأيتامـا

قد أصبحت أم البنين مـريضة

 

تخشى وتشفق أن يكون حماما

فدخل الخادم إليها مفاجأة فرأى وضاحاً عندها فأدخلته الصندوق وأقفلت عليه، فطلب منها الخادم حجراً نفيساً كان يعرف عندها فمنعته إياه بخلاً به، فمضى وأخبر الوليد بالحال، فقالت له: كذبت يا ابن الفاعلة، ثم جاء الوليد إلى أم البنين فدخل وهي جالسة في ذلك البيت تمشط رأسها، وكان الخادم قد وصف له الصندوق، فجلس الوليد فوقه ثم قال: يا أم البنين ما أحب هذا البيت إليك دون البيوت، فلم اخترته؟ قالت: لأنه مجمع حوائجي كلها فأنا أتناولها منه من قريب، فقال: هبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، فقالت: كلها بحكمك يا أمير المؤمنين، فقال: إنما أريد واحداً منها، فقالت: خذ أيها شئت، فقال: هذا الصندوق الذي تحتي، فقالت غيره أحب إليك منه فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها، فقال: ما أريد سواه، فقالت: خذه، فدعا بالخدم وأمرهم بحمله حتى انتهى إلى مجلس فوضعه فيه ثم دعا عبيداً له عجماً وأمرهم بحفر بئر في المجلس فحفرت إلى الماء، ثم دعا بالصندوق فوضعه على شفير البئر ودنا منه وقال: يا صاحب الصندوق إنه بلغنا شيء إن كان حقاً فقد دفناك ودفنا ذكرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلاً فإنما دفنا الخشب وما أهون ذلك. ثم قذف به في البئر وهيل عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط عليه، فما رؤي الوضاح بعد ذلك اليوم ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضباً حتى فرق الموت بينهما.


وقيل: حضر بساط الحجاج رجل تعين عليه القتل وحضر أهل القود بحضوره، فلما فرض النطع وسل السيف اتفق أن ملأ عينه في حالة تلك فرأى بريق السيف ولمعان برق فاستنظر ثم أنشد مرتجلاً:

 

تألق البرق من نجد فقلت لـه

 

يا أيها البرق إني عنك مشغول

يكفيك ما قد ترى من ثائر حنق

 

في كفه كصبيب الماء مسلول

 

فلما رأى الحجاج ما كان من حضوره ذهنه وجودة شعره عطف عليه إشفاقاً له وعرض على طالبيه أن يؤدي عنه ديته، فجلعوا يأبون وجعل يتولج في تحليل القصة ويتدرج في تنفيس الدية حتى بذل لهم دية ملك، فلما أبوا وعتوا قال لحرسه: فكوا قيده وخلوا سبيله فإن من لم ينس أحبته في هذا المقام لجدير أن لا يقتل.


وقيل: أخذ الحجاج أعرابياً سرق فأمر بضربه فضرب، فكلما ضربه بالسوط قال: اللهم شكراً، فأتاه ابن عم له وقال: والله ما دعا الأمير إلى التمادي في ضربك إلا لكثرة شكرك لأن الله تعالى يقول: (ولئن شكرتم لأزيدنكم). فأمر بإطلاقه.


وحدث محمد بن القاسم الأنباري عن المدائني عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت معه وليس عند الحجاج أحد غير عنبسة فقعدت، فجيء الحجاج بطبق رطب فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر فأتاني الخادم منه بشيء، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم؛ ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها، فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة حسنة الخلق ومعها جاريتان لها فإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما الذي أتى بك؟ قالت: إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقالت: الفجاج مغبرة والأرض مقشعرة والمبرك معتل وذو العيال مختل والهالك للقل والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، قد أصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال ومزقت الرجال وأهلكت العيال؛ ثم قالت: إني قلت في الأمير قولاً، قال: هاتي، فأنشأت تقول:

 

أحجاج لا يفلل سلاحك إنمـا ال

 

منايا بكف اللـه حـيث يراهـا

أحجاج لا تعطي العداة مناهـم

 

ولا الله يعطي للعداة منـاهـا

إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة

 

تتبع أقصى دائها فشـفـاهـا

شفاها من الداء العضال الذي بها

 

غلام إذا هز القناة سـقـاهـا

سقاها فرواها بشرب سجـالـه

 

دماء رجال حيث مال حشاهـا

إذا سمع الحجاج ذكر كـتـيبة

 

أعد لها قبل النـزول قـراهـا

أعد لها مسمومة فـارسـية

 

بأيدي رجال يحلبون صراها

فما ولد الأبكار والعون مثله

 

ببحر ولا أرض يجف ثراها

 

قال: فلما قالت هذا البيت قال الحجاج: قاتلها الله، والله ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك ويحك، ثم قال: يا فلان، اذهب بها إلى فلان فقل له: اقطع لسانها، فأمر بإحضار حجام، فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك بقطع لساني بالبر والصلة، فبعث إليه فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه فقال: ارددها، فلما دخلت عليه قالت: كاد والله أيها الأمير يقطع مقولي، ثم أنشأت تقول:

 

حجاج أنت الذي ما فـوقـه أحـد

 

إلا الخليفة والمستغفر الـصـمـد

حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت

 

وأنت للناس نور في الدجـى يقـد

 

ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح منها لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، قال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير؛ هو الذي يقول:

 

حمامة بطـن الـواديين تـرنـمـي

 

سقاك من الغر الغوادي مطـيرهـا

أبيني لنا لا زال ريشـك نـاعـمـاً

 

ولا زلت في خضراء غض نضيرها

وكنت إذا ما جئت ليلى تبـرقـعـت

 

فقد رابني منها الغداة سـفـورهـا

يقول رجـال: لا يضـيرك بـأيهـا

 

بلى، كل ما شف النفوس يضيرهـا

بلى قد يضير العين أن تكثر البـكـا

 

ويمنع منها نومـهـا وسـرورهـا

وقد زعمت ليلـى بـأنـي فـاجـر

 

لنفسي تقاها أو عليها فـجـورهـا

 

فقال الحجاج: يا ليلى ما رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي: آتيك، ففطن الحي به فترصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك هل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قالت: لا والذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:

 

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

 

فليس إليها ما حييت سبـيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

 

وأنت لأخرى صاحب وخليل

 

لا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً حتى فرق الموت بيننا؛ قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:

 

عفا الله عنها هل أبيتـن لـيلة

 

من الدهر لا يسري إلي خيالها

 

فخرجت وأنا أقول:

 

وعنه عفا ربي وأحسن حاله

 

فعز علينا حاجة لا ينالهـا

 

قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث ان مات، فأتى ناعيه؛ قال: فأنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدته:

 

لتبك العذارى من خفاجة نسوة

 

بماء شؤون العبرة المتحـدر

 

قال: فأنشدينا قولك فيه:

 

كأن فتى الفتيان تـوبة، لـم ينـخ

 

قلائص يفحصن الحصى بالكراكر

 

فأنشدته، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي-وكان من جلساء الحجاج-: من هذا الذي يقال هذا فيه؟ فو الله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت: والله أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه، فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب وقد كنت عنه غنياً؛ ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن، قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلك زاد فأجمل، قال: لك أربعون، قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة واعلمي يا ليلى أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جوداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة برعائها، فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: نعم أيها الأمير، تدفع غلي النابغة الجعدي في قيد، قال: قد فعلت، وقد كان يهجوها وتهجوه، فبلغ ذلك النابغة فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك بن مروان فاتبعته إلى الشام فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة فماتت بقومس، وقيل بحلوان.


 

وكان الحجاج إذا سمع بنوح في دار هدمها، فلما مات ابنه وأخوه حن إلى النوح، وكان يعجبه أن يسمعه، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

 

هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبري

 

فلن يرجع الموتى جنين المـآتـم

 

وكان يتمثل بهذا البيت أيضاً وهو:

 

فإن تحتسب تؤجر وإن تبكه تكن

 

كباكية لم يحي ميتاً بكـاؤهـا

 

وبالجملة فأخبار الحجاج كثيرة، وشرحها يطول. وهو الذي بنى مدينة واسط وكان شروعه في بنائها في سنة أربع وثمانين للهجرة وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وإنما سماها واسط لأنها بين البصرة والكوفة فكأنها توسطت بين هذين المصرين؛ وذكر ابن الجوزي في كتاب شذور العقود المرتب على السنين أنه فرغ من بنائها في سنة ثمان وسبعين، وكان قد ابتدأ من سنة خمس وسبعين، والله أعلم.


ولما حضرته الوفاة أحضر منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ قال: نعم، ولست هو، فقال: وكيف ذلك؟ قال المنجم: لأن الذي يموت اسمه كليب، فقال الحجاج: أنا هو والله، بذلك كانت سمتني أمي، فأوصى عند ذلك.


ويشبه هذا قول الداعي علي بن محمد بن علي الصليحي -وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى-وهو الذي كان داعياً باليمن وملك البلاد اليمنية كلها وقهر ملوكها، حتى قدر الله انقضاء مدته، فخرج من صنعاء إلى مكة على عزم الحج في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، حتى إذا كان بالمهجم ونزل بظاهرها بضيعة يقال لها أم الدهيم وبئر أم معبد أدركه فيها على حين غفلة سعيد بن نجاح الأحول الذي كان أبوه صاحب تهامة، وقتله الصليحي واخذ مملكته، وهرب منه أولاده سعيد المذكور وإخوته، وكان سعيد في قل ممن تابعه حتى دخل مخيم الصليحي، والناس يعتقدون أنه من جملة العسكر وحواشيه، فلم يشعر بأمرهم إلا عبد الله بن محمد أخو الصليحي، فركب وقال لأخيه: يا مولانا اركب، فهو والله الأحول بن نجاح، والعدد الذي جاءنا به كتاب أسعد بن شهاب البارحة من زبيد، فقال الصليحي لأخيه: طب نفساً فإني لا أموت إلا بالدهيم وبئر أم معبد، معتقداً أنها أم معبد الخزاعية التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر ومعه أبو بكر-وهي بين مكة والمدينة مما يلي مكة بالقرب من الجحفة-فقال له بعض أصحابه: قاتل عن نفسك، فو الله هذا هو بئر الدهيم بن عيسى، وهذا المسجد موضع خيمة أم معبد بن الحارث العبسي، فأدركه لما سمع ذلك زمع اليأس من الحياة، فلم يرم مكانه، وقتل لوقته هو وأخوه وأهله، وملك سعيد الأحول عسكره وملكه.


 وهذا سعيد الأحول هو أخو الملك جياش المشهور الفاضل، وأبوه نجاح الملك كان عبداً لمرجان الملك، وكان عبداً لحسين بن سلامة مولى الأستاذ رشد الحبشي، وكان الحسين ورشد قبله كل منهما هو صاحب الأمر والملك في المعنى وفي الصورة كالوزير عن آخر ملوك بني زياد باليمن وهو طقل من أولاد أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن زياد يقال له عبد الله، وقيل إبراهيم، وقيل زياد، وهو الذي انقرضت دولتهم به على يد عبد يقال له قيس مولى مرجان المذكور، وسببه أن الطفل المذكور لما مات أبوه أبو الجيش كفله مولاه مرجان المذكور وعمة للطفل، وكان لمرجان عبدان أحدهما نجاح أبو سعيد والآخر قيس، فغلبا على أمره، وكان قيس يحكم بالحضرة ونجاح يتولى أعمال الكدراء والمهجم وأعمالاً أخرى غيرها، ووقع التنافس بين قيس ونجاح على وزارة الحضرة، وكان قيس غشوماً ظالماً ونجاح رؤوفاً عادلاً، فاتهم قيس عمة ابن زياد بالميل عليه إلى نجاح، فقبض عليها وعلى ابن أخيها مرجان ملاه لأجل شكوى قيس إليه منهما وسلمهما إلى قيس، فبنى عليهما حائطين، وهما قائمان بالحياة يناشدانه الله أن لا يفعل، فهلكا سنة سبع وأربعمائة، ونمي ذلك إلى نجاح، فسار للأخذ بثأرهما، وحارب قيساً وجرت بينهما أمور أسفرت عن ظفر نجاح بقيس وملكه الحضرة. وقتل قيس في بعض الوقائع على باب زبيد، ولما فتح نجاح زبيد وهي حضرة الملك يومئذ في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، قال لمرجان مولاه: ما فعل مواليك وموالينا؟ قال: هم في ذلك الحائط، فأخرجهما وصلى عليهما ودفنهما في مشهد بناه لهما وجعل مرجاناً موضعهما، وبنى عليه الحائط حتى هلك. ومات نجاح المذكور بالسم بحيلة تمت عليه مع جارية أهداها له الصليحي المذكور في الكدراء سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. ولما مات نجاح كتب للصليحي في سنة ثلاث وخمسين إلى المستنصر صاحب مصر يسأمره في إظهار الدعوة لهم فأمره فخرج وكان منه ما كان، والله أعلم.


وكان الحجاج ينشد في مرض موته هذين البيتين، وهما لعبيد بن سفيان العكلي:

 

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا

 

أيمانهم أنني من ساكني الـنـار

أيحلفون على عمـياء ويحـهـم

 

ما ظنهم بقديم العفـو غـفـار

 

وكتب إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يخبره فيه بمرضه، وكتب في آخره:

 

إذا ما لقيت الله عنـي راضـياً

 

فإن سرور النفس فيما هنالـك

فحسبي حياة الله من كل مـيت

 

وحسبي بقاء الله من كل هالك

لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا

 

ونحن نذوق الموت من بعد ذلك

 

وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحما وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير. وسلط الله تعالى عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها؛ وشكا ما يجده إلى الحسن البصري ر فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسال الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديداً. وأقام الحجاج على هذه الحالة بهذه العلة خمسة عشر يوماً، وتوفي في شهر رمضان، وقيل في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وعمره ثلاث، وقيل أربع وخمسون سنة، وهو الأصح.


وقال الطبري في تاريخه الكبير: توفي الحجاج يوم الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة خمس وتسعين، وقال غير الطبري: لما جاء موت الحجاج إلى حسن البصري سجد لله تعالى شكراً، وقال: اللهم إنك قد أمته فأمت عنا سنته.


وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها، وعفي قبره وأجري عليه الماء، رحمه الله تعالى وسامحه.


وكان قد رأى في منامه أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدي-وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى-وهند بنت أسماء بن خارجة، فطلق الهندين اعتقاداً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال: والله هذا تأويل رؤياي، محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: من يقول شعراً يسليني به؟ فقال الفرزدق:

 

إن الرزية لا رزية مثلها

 

فقدان مثل محمد ومحمد

ملكان قد خلت المنابر منهما

 

أخذ الحمام عليهما بالمرصد

وكانت وفاة أخيه محمد لليال خلت من رجب سنة إحدى وتسعين للهجرة، وهو والي اليمن، فكتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج يعزيه، فكتب الحجاج جوابه: يا أمير المؤمنين، ما التقيت أنا ومحمد منذ كذا وكذا سنة إلا عاماً واحداً، وما غاب عني غيبة أنا لقرب اللقاء فيها أرجى من غيبته هذه في دار لا يتفرق فيها مؤمنان.

ومعتب: بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوقها وكسرها وبعدها الباء الموحدة.

والثقفي - بفتح الثاء المثلثة والقاف وبعدها الفاء - هذه النسبة إلى ثقيف، وهي قبيلة كبيرة مشهورة بالطائف.