أبو فراس ابن حمدان

أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان-وسيأتي تتمة نسبه عند ذكرهما إن شاء الله تعالى-؛ قال الثعالبي في وصفه: كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ومجداً، وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر، بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة، ومعه رواء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد اشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب بن عباد يقول: بدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه ويستصحبه في غزواته وستخلفه في أعماله.

وكانت الروم قد أسرته في بعض وقائعها، وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه، ونقلته إلى خرشنة، ثم منها قسطنطينية، وذلك في سنة ثمان. وأربعين وثلثمائة، وفداه سيف الدولة في سنة خمس وخمسين.

قلت: هكذا قال أبو الحسن علي بن الزراد الديلمي، وقد نسبوه في ذلك إلى الغلط، وقالوا: أسر أبو فراس مرتين، فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وما تعدوا به خرشنة، وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها، وفيها يقال: إنه ركب فرسه وركضه برجله، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات، والله أعلم، والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوال سنة إحدى وخمسين، وحملوه إلى قسطنطينية. وأقام في الأسر أربع سنين، وله في السر أشعار كثيرة مثبتة في ديوانه. وكانت مدينة منبج إقطاعاً له، ومن شعره:

قد كنت عدتي التي أسطو بهـا

 

ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي

فرميت منك بضد ما أملـتـه

 

والمرء يشرق بالزلال البـارد

فصبرت كالولد التقي لـبـره

 

أغضى على ألم لضرب الوالد

وله أيضاً:

أساء فزادته الإساءة حظـوة

 

حبيب على ما كان منه حبيب

يعد علي الواشـيان ذنـوبـه

 

ومن أين للوجه الجميل ذنوب

وله أيضاً:

سكرت من لحظه لا من مدامته

 

ومال بالنوم عن عيني تمايلـه

فما السلاف دهتني بل سوالفـه

 

ولا الشمول ازدهتني بل شمائله

ألوى بعزمي أصداغ لوين له

 

وغال قلبي بما تحوي غلائله

 

ومحاسن شعره كثيرة.


وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلثمائة.


ورأيت في ديوانه أنه لم احضرته الوفاة كان ينشد مخاطباً ابنته:

 

أبنـيتـي لا تـجـزعـي

 

كل الأنـام إلـى ذهـاب

نوحي علـي بـحـسـرة

 

من خلف سترك والحجاب

قولي إذا كـلـمـتـنـي

 

فعييت عن رد الجـواب

زين الشبـاب ابـو فـرا

 

س لم يمتع بالـشـبـاب

 

وهذا يدل على أنه لم يقتل، أو يكون قد جرح وتأخر هوته، ثم مات من الجراحةوقيل إن هذا الشعر قاله وهو أسير في أيدي الروم، وكان قد جرح ثم أسر ثم خلص من الأسر، فداه سيف الدولة مع من فودي من أسرى المسلمين.


قال ابن خالويه: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرغويه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات فمات في الطريق.


وقرأت في بعض التعاليق: أن أبا فراس قتل يوم الأربعاء لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وثلثمائة، في ضيعة تعرف بصدد.


وذكر ثابت بن سنان الصابئ في تاريخه، قال: في يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وثلثمائة، جرت حرب بين أبي فراس، وكان مقيماً بحمص، وبين أبي المعالي بن سيف الدولة، واستظهر عليه أبو المعالي وقتله في الحرب وأخذ رأسه وبقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاءه بعض الأعراب فكفنه ودفنه.


قال غيره: وكان أبو فراس خال أبي المعالي، وقلعت أمه سخينة عينها لما بلغها وفاته، وقيل إنها لطمت وجهها فقلعت عينها. وقيل لما قتله قرغويه لم يعلم به أبو المعالي، فما بلغه الخبر شق عليه.


ويقال: إن مولده كان في سنة عشرين وثلثمائة، والله أعلم. وقيل: سنة إحدى وعشرين.


وقتل أبوه سعيد في رجب سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، قتله ابن أخيه ناصر الدولة بالموصل، عصر مذاكيره حتى مات لقصة يطول شرحها، وحاصلها أنه شرع في ضمان الموصل وديار ربيعة من جهة الراضي بالله، ففعل ذلك سراً، ومضى إليها في خمسين غلاماً، فقبض ناصر الدولة عليه حين وصل إليها ثم قتله، فأنكر ذلك الراضي حين بلغه، رحمهم الله تعالى.


وحكى ابن خالويه أيضاً قال: كتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتاباً صدره: كتابي أطال الله بقاء مولانا من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل الظهر والظهر وفراً وشكراً، فاستحسن سيف الدولة بلاغته ووصف براعته، وبلغ ذلك أبا فراس فكتب إليه:

 

هل للفصاحة والسما

 

حة والعلا عني محيد

إذ أنت سـيدي الـذي

 

ربيتني وأبي سعـيد

في كل يوم أستـفـي

 

د من العلاء وأستزيد

ويزيد فــي إذا رأي

 

تك للندى خلق جديد

 

وكان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب وممارسة الحروب، فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يستحثه على استحضارها:

 

محلك الجوزاء أو أرفـع

 

وصدرك الدهناء أو أوسع

وقلبك الرحب الذي لم يزل

 

للجد والهزل به موضـع

رفه بقرع العود سيفاً غـدا

 

قرع العوالي جل ما يسمع

 

فبلغت هذه الأبيات الوزير المهلبي فأمر القيان والقوالين بتحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها.


وأهدى الناس إلى سيف الدولة فأكثروا، فكتب إليه أبو فراس:

 

نفسي فداؤك قد بعـث

 

ت بعهدتي بيد الرسول

أهديت نفسي إنمـا يه

 

دى الجليل إلى الجليل

وجعلت ما ملكت يدي

 

صلة المبشر بالقبـول

 

وعزم سيف الدولة على غزو واستخلاف أبي فراس على الشام فكتب إليه قصيدة منها:

 

قالوا المسير فهز الرمح عامـلـه

 

وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم

حقاً لقد ساءني أمـر ذكـرت لـه

 

لولا فراقك لـم يوجـد لـه ألـم

لا تشغلن بأمر الشـام تـحـرسـه

 

إن الشآم على من حـلـه حـرم

وإن للثغر سوراً من مهابـتـه

 

صخوره من أعادي أهله القمم

لا يحرمني سيف الدين صحبته

 

فهي الحياة التي تحيا بها النسم

وما اعترضت عليه في أوامره

 

لكن سألت ومن عاداته نـعـم

وكتب إليه يعزيه:

لابد من فقـد ومـن فـاقـد

 

هيهات ما في الناس من خالد

كن المعزى لا المعـزى بـه

 

إن كان لابد مـن الـواحـد

وله أيضاً:

المرء نصب مصايب ما تنقضي

 

حتى يوارى جسمه في رمسه

فمؤجل يلقى الردى في أهلـه

 

ومعجل يلقى الردى في نفسه

 

وله أيضاً وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية وهو في الأسر فقال:

 

أقول وقد ناحت بقربي حـمـامة

 

أيا جارتا هل بات حالك حالـي

معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى

 

ولا خطرت منك الهموم بـبـال

أتحمل محزون الـفـؤاد قـوادم

 

على غصن نائي المسافة عالـي

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننـا

 

تعالي أقاسمك الهموم تعـالـي

تعالي تري روحا لدي ضـعـيفة

 

تردد في جسم يعـذب بـالـي

أيضحك مأسور وتبكي طـلـيقة

 

ويسكت محزون ويندب سالـي

لقد كنت أولى منك بالدمع مقـلة

 

ولكن دمعي في الحوادث غالي

وخرشنة-بفتح ا لخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الشين المثلثة والنون-وهي بلدة بالشام على الساحل، وهي للروم.

وقسطنطينية-بضم القاف وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون النون وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون-من أعظم مدائن الروم بناها قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم.