القاضي اياس

أبو وائلة إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد بن سوأة بن سارية بن ذبيان بن سليم بن أوس بن مزينة المزني؛ وهو السن البليغ والألمعي المصيب، والمعدود مثلاً في الذكاء والفطنة، ورأسا لأهل الفصاحة والرجاحة. كان صادقا الظن لطيفاً في الأمور، مشهوراً بفرط الذكاء، وبه يضرب المثل في الذكاء، وإياه عنى الحريري في المقامات بقوله في المقامة السابعة: فإذا أمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إياس، وكان عمر بن عبد العزيز قد ولاه قضاء البصرة. وكان لإياس جد أبيه صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل لمعاوية بن قرة والد إياس: كيف ابنك لك؟ فقال: نعم الابن، كفاني أمر دنياي وفرغني لآخرتي.
وكان إياس أحد العقلاء الفضلاء الدهاة.

ويحكى من فطنته أنه كان في موضع فحدث فيه ما أوجب الخوف، وهناك ثلاث نسوة لايعر فهن، فقال: هذه ينبغي أن تكون حاملاً، وهذه مرضعاً، وهذه عذراء، فكشف عن ذلك فكان كما تفرس، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: عند الخوف لايضع الإنسان يده إلا على أعز ما له ويخاف عليه، ورأيت الحامل قد وضعت يدها على جوفها، فاستدللت بذلك على حملها، ورأيت المرضع قد وصعت يدها على ثديها، فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها على فرجها، فعلمت أنها بكر.

وسمع إياس بن معاوية يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون، فقال له إياس: أفكل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا، لأن الله تعالى يجعله غذاء، قال فلم تنكر أن الله تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء؟ ونظر يوماً إلى آجرة بالرحبة وهو بمدينة واسط، فقال: تحت هذه الآجرة دابة، فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية، فسألوه عن ذلك فقال: إني مابين الآجرتين ندياً من بين جميع تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس.

ومر يوماً بمكان فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك فإذا كلب غريب مربوط والكلاب تنبحه.

ونظر يوماً إلى صدع في الأرض فقال: في هذا الصدع دابة، فنظروا فإذا فيه دابة، فسألوه عنه فقال: إن الأرض لاتنصدع إلا عن دابة أو نبات.
قال الجاحظ: إذا نظر الإنسان إلى موضع منفتح في أرض مستوية فيتأمله فإن رآه يتصدع في تهيل وكان تفتحه مستوياً علم أنها كمأة، وإن خلط في التصدع والحركة علم أنها دابة.

وله في هذا الباب من الفراسة أشياء غريبة كثيرة، ولولا خوف الإطالة لبسطت القول في ذلك، وبعض العلماء قد جمع جزءا كبيرا من اخباره.

وكتب عمر بن عبد العزيز الأموي - رضي الله عنه - في أيام خلافته إلى نائبه بالعراق وهو عدي بن أرطاة ان اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الحرشي فول قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الأمير سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري ومحمد بين سيرين، وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما اشارا به، فقال له: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لاإله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف، فقال عدي بن أرطاة: أما إذ فهمتها فأنت لها، واستقضاه.

وروي عن إياس أنه قال: ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني - وذكر حدوده - هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره؟ فسكت ثم قال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت له: الحق معك، وأجزت شهادته.

وكان يوماً في برية فأعوزهم الماء، فسمع نباح كلب فقال: هذا على رأس بئر، فاستقروا النباح فوجدوه كما قال، فقيل له في ذلك فقال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من بئر. وكان له في ذلك غرائب.

وقال أبو إسحاق ابن حفص: رأى إياس في المنام أنه لا يدرك النحر، فخرج إلى ضيعة له بعبدسى - وعبدس: قرية من أعمال دست ميسان يسن البصرة وخوزستان - فتوفي بها في سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال غيره: سنة إحدى وعشرين، وعمره ست وسبعون سنة.

وقال إياس في العام الذي توفي فيه: رأيت في المنام كاني وأبي على فرسين فجريا معا فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستا وسبعين سنة وأنا فيها، فلما كان آخر لياليه قال: أتدرون أي ليلة هذه؟ ليلة أستكمل فيها عمر أبي، ونام فأصبح ميتاً، وكانت وفاة أبيه معاولة في سنة ثمانين للهجرة، رحمه الله تعالى.

وإياس: بكسر الهمزة، وقرة: بضم القاف، ومزينة: قد تقدم القول عليها.

وتراءى هلال شهر رمضان جماعة فيهم أنس بن مالك رضي الله عنه وقد قارب المائة، فقال أنس: قد رأيته، هو ذاك، وجعل يشير إليه فلا يرونه، ونظر إياس إلى أنس وإذا شعرة من حاجبه قد انثنت، فمسحها إياس وسواها بحاجبه، ثم قال له: يا أبا حمزة، أرنا موضع الهلال، فجعل ينظر ويقول ما أراه.