أيوب والد السلطان صلاح الدين

أيوب والد السلطان صلاح الدين

أبو الشكر أيوب بن شاذي بن مروان الملقب الملك الأفضل نجم الدين والد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وسيأتي في ترجمة ولده صلاح الدين تتمة نسبة وصورة الاختلاف فيه، فينظر هناك، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره ههنا.

قال بعض المؤرخين: كان شاذي بن مروان من أهل دوين ومن أبناء أعيانها والمعتبرين بها، وكان له صاحب يقال له: جمال الدولة المجاهد بهروز - قلت: وهو المذكور في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب - قال: وكان من أظرف الناس وألطفهم وأخبرهم بتدبير الأمور، وكان بينهما من الاتحاد كما بين الأخوين، فجرت لبهروز قضية في دوين، فخرج منها حياء وحشمة، وذلك أنه اتهم بزوجة بعض الأمراء بدوين، فأخذه صاحبها فخصاه، فلما مثل به لم يقدر على الإقامة بالبلد، وقصد خدمة أحد الملوك السلجوقية، وهو السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، واتصل باللالا الذي لأولاده، فوجده لطيفاً كافياً في جميع الأمور، فتقدم عنده وتميز، وفوض أحواله إليه، وجعله يركب مع أولاد السلطان مسعود إذا كان له شغل، فرآه السلطان يوما مع أولاده، فأنكر على اللال، فقال له: إنه خادم، وأثنى عليه وشكر دينه وعفافه ومعرفته، ثم صار يسيره إلى السلطان في الأشغال، فخفف على قلبه، ولعب معه بالشطرنج والنرد فحظي عنده، واتفق موت اللال، فجعله السلطان مكانه، وأرصده لمهامه، وسلم إليه أولاده، وسار ذكره في تلك النواحي، فسير إلى شاذي يستدعيه من بلده ليشاهد ما صار إليه من النعمة، واليقاسمه فيما خوله الله تعالى، وليعلم أنه ما نسبه، فلما وصل إليه بالغ في إكرامه والإنعام عليه.

واتفق أن السلطان رأى أن يوجه المجاهد المذكور إلى بغداد والياً عليها ونائباً عنه بها، وكذا كانت عادة الملوك السلجوقية في بغداد يسيرون إليها النواب، فاستصحب معه شاذي المذكور، فسار هو واولاده صحبته، وأعطى السلطان لبهروز قلعة تكريت، فلم يجد من يثق إليه في أمرها سوى شاذي المذكور، فأرسله إليها، فمضى وأقام بها مدة وتوفي بها، فولى مكانه ولده نجم الدين أيوب المذكور، فنهض في أمرها، وشكره بهروز وأحسن إليه، وكان أكبر سناً من أخيه أسد الدين شيركوه، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.

قلت: وهذا الكلام بينه وبين الآتي ذكره في ترجمة صلاح الدين بعض الاختلاف، والله أعلم بالصواب، ولا شك أنه يحصل المقصود من مجموع الكلامين، فلينظر هناك أيضاً، وذكرت في تلك الترجمة أيضاً سبب المعرفة بين عماد الدين زنكي صاحب الموصل، وبين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، فلا حاجة إلى ذكره هنا.

ثم اتفق أن بعض الحرم خرجت من قلعة تكريت لقضاء حاجة، وعادت فعبرت على نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه وهي تبكر، فسألاها عن سبب بكائها، فقالت: أنا داخلة في الباب الذي للقلعة، فتعرض إلي الإسفهسلار، فقام شيركوه وتناول الحربة التي تكون للإسفهسلار وضربه بها فقتله، فأمسكه أخوه نجم الدين أيوب واعتقله، وكتب إلى بهروز وعرفه صورة الحال ليفعل فيه ما يراه، فوصل إليه جوابه لأبيكما علي حق، وبيني وبينه مودة متاكدة، ما يمكنني أن أكافئكما بحالة سيئة تصدر مني في حقكما، ولكن أشتهي منكما أن تتركا خدمتي، وتخرجا من بلدي، وتطلبا الرزق حيث شئتما. فلما وصلهما الجواب ما أمكنهما المقام بتكريت، فخرجا منها ووصلا إلى الموصل، فأحسن إليهما الأتابك عماد الدين زنكي لما كان تقدم لهما عنده، وزارد في إكرامهما والإنعام عليهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، ثم لما ملك الأتابك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب، وهذا كله مذكور في ترجمة ولده صلاح الدين، وإن اختلفت العبارة، ورأيت في بعلبك خانقاه للصوفية يقال لها النجمية، وهي منسوبة إليه، عمرها في مدة إقامته بها، وكان رجلاً مباركاً كثير الصلاح، مائلاً إلى أهل الخير حسن النية، جميل الطوية.

وفي أوائل ترجمة صلاح الدين طرف من أخبار والده نجم الدين أيوب، وكيف رتبه زنكي في بعلبك، وما جرى له بعد ذلك من الانتقال إلى دمشق، فأغنى عن شرحه ههنا.

ولما توجه أخوه اسد الدين شيركوه إلى مصر لإنجاد شاور - على ما اشرحه في ترجمتيهما إن شاء الله تعالى - كان نجم الدين أيوب مقيماً بدمشق في خدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى، ولما تولى صلاح الدين ولده وزارة الديار المصرية في أيام العاضد صاحب مصر، استدعى أباه من الشام، فجهزه نورالدين وأرسله إليه ودخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد للقائه إكراماً لولده صلاح الدين يوسف، وسلك معه ولده صلاح الدين من الأدب ماهو اللائق بمثله، وعرض عليه الأمر كله فأبى وقال: يا ولدي، ما اختارك الله تعالى لهذا الأمر إلا وأنت أهل له، ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة، ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد كما هو مذكور في ترجمته.

ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها وأبوه بالقاهرة، فركب يوماً ليسير على عادة الحند، فخرج من باب النصر أحد أبواب القاهرة، فشب به فرسه فألقاه في وسط المحجة، وذلك في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة من سنة ثمان وستين وخمسمائة، فحمل إلى داره، وبقي متألما إلى أن توفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، هكذا ذكره جماعة من المؤرخين، منهم عماد الدين الكاتب الأصبهاني، لكنه قال: إن وفاته كانت يوم الثلاثاء.

ورأيت في تاريخ كمال الدين بن العديم فصلا نقله من تعليق العضد مرهف بن أسامة بن منقذ، قال: إنه توفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة. قلت: ظاهر الحال أن العضد ما اوقعه في هذا الوهم إلا أنه اعتقد أنه توفي في اليوم الذي سقط فيه عن فرسه، فان هذا التاريخ هو تاريخ سقوطه عن الفرس لا تاريخ وفاته، والله أعلم.

ولما مات دفن إلى جاب أخيه أسد الدين شيركوه في بيت بالدار السلطانية ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

ورأيت في تاريخ القاضي الفاضل الذي رتبه على الأيام وهو بخطه، يذكر فيه ما يتجدد في كل يوم، فقال: وفي يوم الخميس رابع صفر سنة ثمانين وخمسمائة وصل كتاب بدر الأسدي - يعني من المدينة - يخبر بوصول تابوتي الأميرين: نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، واستقرارهما بتربتهما مجاورين الحجرة المقدسة النبوية، نفعهما الله تعالى بمجاورتها.

ولما عاد صلاح الدين من الكرك إلى الديار المصرية بلغة الخبر في الطريق فشق عليه حيث لم يحضره، وكتب إلى ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن شاهانشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، كتاباً بخط القاضي الفاضل يعزيه عن جده نجم الدين أيوب المذكور.

ومن جملة فصوله: المصاب بالمولى الدارج، غفر الله ذنبه، وسقى بالرحمة تربه، ما عظمت به اللوعة، واشتدت به الروعة، وتضاعفت لغيبتنا عن مشهده الحسرة، فاستنجدنا بالصبر فأبى وأنجدت العبرة، فياله فقيدا فقدنا عليه العزاء، وهانت بعده الأرزاء، وانتثر شمل البركة بفقده، فهي بعد الاجتماع أجزاء:

وتخطفته يد الردى في غيبـتـي        هبني حضرت فكنت ماذا أصنع

ورثاه الفقيد عمارة اليمني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - بقصيدة طويلةأجاد في أكثرها، وأولها:

هي الصدمة الأولى فمن بان صبره           على هول ملقاه تضاعف أجـره

وقال ابن أبي الطي الأديب الحلبي في تاريخه الكبير: كان مولد نجم الدين أيوب ببلد سجستان، وقيل: إنه ولد بجبل جور وربي ببلد الموصل، ولم يوافقه على ذلك أحد، بل انفرد به، وإنما نبهت عليه كيلا يقف عليه من لا يعرف هذا الفن فيظن أنه صواب، وليس المر كذلك، بل الصحيح هو الذي ذكرته أولا.

وشاذي - بالشين المعجمة وبعد الألف ذال معجمة مكسورة وبعدها باء مثناة من تحتها - وهذا الاسم عجمي، ومعناه بالعربي فرحان.

ودوين - بضم الدال المهملة وكسر الواو وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم نون - وهي بلدة في أواخر إقليم أذربيجان من جهة الشمال تجاور بلاد الكرج، وينسب إليها الدويني والدوني أيضاً، بفتح الواو، والله أعلم.

قلت: والمسجد والحوض اللذان بظاهر القاهرة، خارج باب النصر، عمارة نجم الدين أيوب أيضاً، ورأيت تاريخ بناء الحوض في الحجر المركب أعلاه في سنة ست وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى وقدس الله روحه.