العراقي الخطيب

أبو إسحاق إبراهيم بن منصور بن المسلم، الفقيه الشافعي المصري المعروف بالعراقي، الخطيب بجامع مصر؛ كان فقيهاً فاضلاً، وشرح كتاب المهذب، تصنيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي - رحمة الله تعالى - في عشرة أجزاء شرحاً جيداً، ولم يكن من العراق، وإنما سافر إلى بغداد، واشتغل بها مدة، فنسب إليها لإقامته بها تلك المدة، وعاد إلى مصر وتولى الخطابة بجامعها العتيق والإمامة به والتصدر، ولم يزل على الخطابة والإمامة به والإفادة إلى حين وفاته ومضى على سداد وأمر جميل. قرأ ببغداد الفقه على أبي بكر محمد بن الحسين الأرموي، وكان من أصحاب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعلى أبي الحسن محمد بن المبارك بن الخل البغدادي، وتفقه ببلده على القاضي أبي المعالي مجلي بن جميع الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان في بغداد يعرف بالمصري، فلما رجع إلى مصر قيل له: العراقي، والله أعلم.

وقد روي عن الخطيب أبي إسحاق المذكور أنه كان يقول: أنشدني شيخنا ابن الخل المذكور ببغداد، ولم يسم قائلاً:

في زخرف القول تزيين لباطله         والحق قد يعتريه سوء تعبـير
تقول هذا مجاج النحل تمدحـه        وإن ذممت تقل قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما

 

حسن البيان يري الظلماء كالنور

وكانت ولادته بمصر، سنة عشر وخمسمائة، وتوفي يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادى الأولى، سنة ست وتسعين وخمسمائة بمصر، ودفن بسفح المقطم، رحمة الله تعالى.

والمسلم: بضم الميم وتشديد اللام.

وكان له ولد فاضل، نبيل القدر، اسمه أبو محمد عبد الحكم، ولي الخطابة بجامع مصر بعد وفاة والده، وكانت له خطب جيدة، وشعر لطيف.
فمن شعره في العماد ابن جبريل، المعروف بابن أخي العلم - وكان صاحب ديوان بيت المال بمصر، وكان قد وقع فانكسرت يده - قوله:

إن العماد بن جبريل أخـي عـلـمٍ

 

له يد أصبحت مـذمـومة الأُثـر

تأخر القطع عنها وهـي سـارقة

 

فجاءها الكسر يستقصي عن الخبر

وله غير ذلك أشعار نادرة، ثم وجدت هذين البيتين في ديوان جعفر بن شمس الخلافة الآتي ذكره؛ والله أعلم.
ومن شعر عبد الحكم المذكور في رجل وجب عليه القتل، فرماه المستوفي للقصاص بسهم فأصاب كبده فقتله، فقال عبد الحكم:

أخرجت من كبد القوس ابنها فغدت

 

تئن والأم قد تحنو علـى الـولـد

وما درت أنه لـمـا رمـيت بـه

 

ما سار من كبد إلا إلـى كـبـد

قلت: البيت الأول من هذين البيتين مأخوذ من قول بعض المغاربة:

لا غرو من جزعي لبينهم

 

يوم النوى وأنا أخوالهـم

فالقوس من خشب تئن إذا

 

ما كلفوها فرقة السهـم

والبيت الثاني مأخوذ من قول الفقيه عمارة اليمني، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، في قصيدته الميمية التي ذكرتها هناك، وقد قدم من مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية، وامتدح بها مليكها يومئذ، - وهو الفائز عيسى بن الظافر العبيدي، ووزيره الصالح طلائع بن رزيك، وكلاهما مذكوران في هذا التاريخ، فقال من جملة القصيدة، يمدح العيس التي حملته إلى مصر:

ورحن من كعبة البطحاء والحرم

 

وفداً إلى كعبة المعروف والكرم

فهل درى البيت أني بعد فرقتـه

 

ما سرت من حرم إلا إلى حرم

ومن شعر عبد الحكم أيضا:

قامت تطالبني بلؤلؤ نحـرهـا

 

لما رأت عيني تجود بدرهـا

وتبسمت عجباً فقلت لصاحبـي

 

هذا الذي اتهمت به في ثغرها

قلت: وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي الحسن علي بن عطية المعروف بابن الزقاق الأندلسي البلنسي:

وشادن طاف بالكؤوس ضحىً

 

فحثها والصباح قد وضحـا

والروض يبدي لنا شقـائقـه

 

وآسه العنبري قد نـفـحـا

قلت: وأين الأقاح؟ قال لنـا:

 

أودعته ثغر من سقى القدحا

فظل ساقي المدآم يجحد مـا

 

قال، فلما تبسم افتـضـحـا

وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر وزيرالملك العادل بن أيوب بمصر، قد عزل عبد الحكم المذكور عن خطابة جامع مصر، فكتب إليه:

فلأي بابٍ غير بابك أرجـع

 

وبأي جود غير جودك أطمع

سدت علي مسالكي ومذاهبي

 

إلا إليك فدلني ما أصـنـع

فكأنما الأبواب بابـك وحـده

 

وكأنما أنت الخليقة أجمـع

قلت: والبيت الأخير مأخوذ من قول السلامي الشاعر المشهور، وهو:

فبشرت آمالي بملكٍ هو الورى

 

ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

وسيأتي ذكرها في ترجمة عضد الدولة بن بويه في حرف الفاء، إن شاء الله تعالى.

 

ولعبد الحكم المذكور يستجلي زوجته:

سترت وجهها بكـف عـلـيه

 

شبك النقش وهي تجلى عروسا

قلت لم يغن عنك سترك شـيئاً

 

ومتى غطت الشباك الشموسا؟

وله أيضاً:

ومأدبة بتنا بهـا فـي لـذاذة

 

يخيل لي أنا على الماء نـوم

فمن فوقنا الأفلاك والفلك تحتنا

 

ففي تلك أقمار وفي تيك أنجم

وله أيضاً:

ومأدبة لتنا بهـا فـي لـذاذة

 

يخيل لي أنا على الماء نـوم

فمن فوقنا الأفلاك والفلك تحتنا

 

ففي تلك أقمار وفي تيك أنجم

وله أيضا:

على مهل ففي الأحوال ريث

 

أتخشى أن تضام وأنت ليث

بمصر إن أقمت فأنت نـيل           وإن سرت الشآم فأنت غيث

وكانت ولادته ليلة الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة.

وتوفي سحرة الثامن والعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة، بمصر، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمة الله تعالى عليه.
وأنشدني ولده شيئاً كثيراً من شعره، وطريقته فيه لطيفة.

وأما العماد المذكور فهو أبو عبد الله محمد بن أبي الأمانة جبريل بن المغيرة بن سلطان بن نعمة، وكان فاضلاً مشهوراً بكثرة الأمانة فيما يتولاه، وتقلب في الخدم الديوانية بمصر والإسكندرية، وكانت ولادته سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتوفي في خامس شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة بالقاهرة، رحمة الله تعالى.