الحسن البصري

أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري؛ كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة. وأوبه مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة، رضي الله عنها، ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه، فدر عليه ثديها فشربه، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك.

قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج ابن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.

ونشأ الحسن بوادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث.

وحكى الأصمعي عن أبيه قال: ما رأيت أعرض زنداً من الحسن، كان عرضه شبراً.

وكان الحسن يقص في الحج، فمر به علي بن الحسين عليهما السلام، فقال له: يا شيخ أترضى نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فلله في أرضه معاد غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فثم دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت؟ قال: فما قص الحسن بعدها.

وقيل إن رجلاً أتى الحسن فقال: يا أبا سعيد إني حلفت بالطلاق ان الحجاج في النار فما تقول؟ اقيم مع امرأتي أم أعتزلها؟ فقال له: قد كان الحجاج فاجراً فاسقاً وما أدري ما أقول لك، إن رحمة الله وسعت كل شيء؛ وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف فرد عليه شبيهاً بما قاله الحسن؛ وإنه أتى عمرو بن عبيد فقال له: أقم مع زوجتك فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا، ذكر ذلك المختار في تاريخه.

وكان في جنازة وفيها نوائح ومعه رجل فهم الرجل بالرجوع فقال له الحسن: يا أخي إن كنت كلما رأيت قبيحاً تركت له حسناً أسرع ذلك في دينك.

وقيل له: ألا ترى كثرة الوباء؟ فقال: انفق ممسك واقلع مذنب، واتعظ جاحد.

ونظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها فقال: مالكم تزدحمون؟ ها تلك هي ساريته في المسجد، اقعدوا تحتها حتى تكونوا مثله؛ وحدث الحسن بحديث فقال له رجل: يا أبار سعيد عن من؟ فقال: وما تصنع بعمن؟ أما أنت فقد نالتك موعظته وقامت عليك حجته؛ وقال له رجل: أنا أزهد منك وأفصح، قال أما أفصح فلا، قال: فخذ علي كلمة واحدة، قال: هذه؛ وقال لفرقد بن يعقوب: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج، فقال: يا أبا سعيد أخاف ألا اؤدي شكره، قال الحسن: يا لكع هل تقدر تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه؟ وقيل للحسن: إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك؛ وقريب من هذا قول سفيان بن الحسين، قال: كنت جالساً عند إياس بن معاوية فنلت من إنسان فقال: هل غزوت العام الترك والروم ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ وسمع رجلاً يشكو عليه إلى آخر فقال: أما إنك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.

ومن كلامه: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت. ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك؛ يا ابن هبيرة إن تعص ا لله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا له فسفسف لنا.

ورأى الحسن يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة، فسأل عنه فقيل: إنه يسخر للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه، ما رأيت أحداً طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا.

وكانت أمه تقص للنساء، ودخل عليها يوماً وفي يدها كراثة تأكلها، فقال لها: يا أماه، ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت: يا بني إنك شيخ قد كبرت وخرفت، فقال: يا أماه، أينا أكبر؟ وأكثر كلامه حكم وبلاغة. وكان أبوه من سبي ميسان، وهو صقع بالعراق.

ومولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، ويقال إنه ولد على الرق، وتوفي بالبصرة مستهل رجب سنة عشر ومائة، رضي الله عنه، وكانت جنازته مشهودة؛ قال حميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر.

وأغمي على الحسن عند موته، ثم أفاق فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.

وقال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن.

ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما، ثم توفي بعده بمائة يوم، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

وميسان-بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعد الألف نون-قال السمعاني: هي بليدة بأسفل البصرة.