ابن رشيق القيروان

أبو علي الحسن بن رشيق المعروف بالقيرواني؛ أحد الأفاضل البلغاء، له التصانيف المليحة منها: كتاب العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه، وكتاب الأنموذج والرسائل الفائقة والنظم الجيد.

قال ابن بسام في كتاب الذخيرة: بلغني أنه ولد بالمسيلة وتأدب بها قليلاً، ثم ارتحل إلى القيروان سنة ست وأربعمائة. وقال غيره: ولد بالمهدية سنة تسعين وثلثمائة،، وأبوه مملوك رومي من موالي الأزد، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وكانت صنعة أبيه في بلدة - وهي المحمدية - الصياغة، فعلمه أبوه صنعته، وقرأ الأدب بالمحمدية، وقال الشعر، وتاقت نفسه إلى التزيد منه وملاقاة أهل الأدب، فرحل إلى القيروان واشتهر بها ومدح صاحبها واتصل بخدمته، ولم يزل بها إلى أن هاجم العرب القيروان وقتلوا أهلها وأخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية، واقام بمازر إلى أن مات.

ورأيت بخط بعض الفضلاء أنه توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة بمازر، والأول أصح، رحمه الله تعالى، وهي قرية بجزيرة صقلية-وسيأتي ذكرها في ترجمة المازري إن شاء الله تعالى - وقيل إنه توفي ليلة السبت غرة ذي القعدة سنة ست وخمسين وأربعمائة بمازر -، والله أعلم.

وكانت بينه وبين ابن شرف القيروان وقائع وماجريات وهما أديبا بلاد المغرب وشاعراها. وكان ابن شرف أعور؛ قيل: مر يوماً وبيده كتاب فقال له ابن رشيق: ما في كتابك؟ قال: الدريدية، يعرض بقول ابن دريد فيها:

 

والعبد لا يردعه إلا العصا

 

يشير إلى أنه مولى، فقال له ابن رشيق:

 

أما أبي فرشيق لسـت أنـكـره

 

قل لي أبوك وصوره من الخشب

 

ومن شعره أيضاً وقد غاب المعز بن باديس عن حضرته وكان العيد ماطراً:

 

تجهم العيد وانهـلـت بـوادره

 

وكنت أعهد منه البشر والضحكا

كأنه جاء يطوي الأرض من بعد

 

شوقاً إليك فلما لم يجدك بكـى

 

وقال أيضاً وقد أمره المعز بوصف أترجة مصبعة كانت بين يديه بديهاً:

 

أترجة سبطة الأطراف ناعـمة

 

تلقى العيون بحسن غير منحوس

كأنها بسطت كفاً لخـالـقـهـا

 

تدعو بطول بقاء لابـن بـاديس

 

ومن شعره أيضاً:

 

لو اورقت من دم الأبطال سمر قنا

 

لأورقت عنده سمر القنا الـذبـل

إذا توجه فـي أولـى كـتـائبـه

 

لم تفرق العين بين السهل والجبل

فالجيش ينفض حوليه أسـنـتـه

 

نفض العقاب جناحيها من البلـل

 

هذا البيت من فرائده وهو ملتفط من قول أبي صخر الهذلي:

 

وإني لتعروني لذكـرك فـتـرة

 

كما انتفض العصفور بلله القطر

ولابن رشيق المذكور رحمه الله تعالى:

ومن حسنات الدهر عندي لـيلة

 

من العلم لم تترك لأيامها ذنبـا

خلونا بها ننفي الكرى عن جفوننا

 

بلؤلؤة مملوءة ذهباً سـكـبـا

وملنا لتقبيل الخدود ولثـمـهـا

 

مميل جياع الطير تلتفط الحبـا

ومن شعره أيضاً:

صنم من الكافور بات معانقـي

 

في حلتين تعفـف وتـكـرم

فكرت ليلة وصله فـي صـده

 

فجرت بقايا أدمعي كالعـنـدم

فطفقت أمسح ناظري في نحره

 

إذ شيمة الكافور إمساك الـدم

ومن شعره رحمه الله:

قالوا رأينا فلاناً ليس يوجـعـه

 

ما يوجع الناس من هجو به قذفا

فقلت لو أنـه حـي لأوجـعـه

 

لكنه مات من جهل وما عرفـا

وما هجوت فلاناً غير تـجـربة

 

وذو الرماية لا يستشعر الهدفـا

ومن شعره:

أحب أخي وإن أعرضت عنه

 

وقيل على مسامعه كلامـي

ولي في وجهه تقطيب راض

 

كما قطبت في وجه المـدام

ورب تقطب من غير بغض

 

وبغض كامن تحت ابتسـام

ومن شعره:

يا رب لا اقوى علـى دفـع الأذى

 

وبك استعنت على الضعيف الموذي

ما لي بعثت إلي ألـف بـعـوضة

 

وبعثت واحـدة إلـى نـمـروذ؟

ومن شعره على ما حكاه ابن بسام في "الذخيرة":

أسلمني حب سليمـانـكـم

 

إلى هوى أيسره الـقـتـل

قالت لنا جنـد مـلاحـاتـه

 

لما بدا ما قالت الـنـمـل

قوموا ادخلوا مسكنكم قبل أن

 

تحطمك أعينه الـنـجـل

وله وقد كبر وضعف مشيه، وهو معنى غريب:

إذا ما خففت كعهد الصبـا

 

أبت ذلك الخمس والأربعونا

وما ثقلت كبـراً وطـأتـي

 

ولكن أجر ورائي السنينـا

وله أيضاً:

وقائلة ما ذا الشحوب وذا الضنى

 

فقلت لها قول المشوق المتـيم

هواك أتاني وهو ضيف أعـزه

 

فأطعمته لحمي واسقيته دمـي

 ومن تصانيفه أيضاً: قراضة الذهب، وهو لطيف الجرم كبير الفائدة، وله كتاب الشذوذ في اللغة، يذكر فيه كل كلمة جاءت شاذة في بابها. وكتاب طراز الأدب وكتاب الممادح والمذام وكتاب متفق التصحيف وكتاب تحرير الموازنة وكتاب الاتصال وكتاب المن والفداء وكتاب غريب الأوصاف التشبيهات لما انفرد به المحدثون وكتاب أرواح الكتب وكتاب شعراء الكتاب وكتاب المعونة في الرخص والضرورات وكتاب الرياحين وكتاب صدق المدائح وكتاب الأسماء المعربة وكتاب إثبات المنازعة وكتاب معالم التاريخ وكتاب التوسع في مضايق القول وكتاب الحيلة والاحتراس. وكانت بينه وبين أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد المعروف بابن شرف القيرواني وقائع وماجريات يطول شرحها، وقصدنا الاختصار.

ورشيق: بفتح الراء وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف.

والمسيلة: قد تقدم ذكرها فلا حاجة إلى إعادته.