بوران

بوران بنت الحسن بن سهل، وسيأتي خبر أبيها إن شاء الله تعالى؛ ويقال: إن اسمها خديجة، وبوران لقب، والأول أشهر.

وكان المأمون قد تزوجها لمكان أبيها منه، واحتفل أبوها بأمرها، وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصار، وكان ذلك بفم الصلح وانتهى أمره إلى أن نثر على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها، فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم مافيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرسا أو جارية أو مملوكاً.

ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده واتباعه، وكانوا خلقاً لا يحصى، حتى على الجمالين والمكاربة والملاحين وكل من ضمه عسكره، فلم يكن في العسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه.

وذكر الطبري في تاريخه أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً، يعد له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم، وأمر له المأمون عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه، ثم قال: بعد هذا خرج المأمون نحو الحسن لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لسبع بقين من شوال سنة عشر ومائتين، وهلك حميد بن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة، وقال غيره: وفرش للمأمون حصير منسوج بالذهب، فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلىء كثيرة، فلما رأى تساقط الآلىء المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس! كأنه شاهد هذه الحال حين قال في صفة الخمر والحباب الذي يعلوها عند المزاج:

كأن صغرى وكبرى من فواقعهـا

 

حصباء در على أرض من الذهب

 

وقد غلطوا أبا نواس في هذا البيت، وليس هذا موضع إبانة الغلط.


واطلق له المأمون خراج فارس وكور الأهواز مدة سنة، وقالت الشعراء والخطباء في ذلك فأطنبوا ومما يستظرف فيه قول محمد بن خازم الباهلي

 

بارك الله للـحـسـن

 

ولبوران في الختـن

يا ابن هارون قد ظفر

 

ت ولكن ببنت مـن

 

فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري خيراً أراد أم شراً. وقال الطبري أيضا: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح، فلما جلس معها نثرت عليهما جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع وسألها عن عدد الدر كم هو، فقالت: ألف حبة، فوضعها في حجرها وقال لها: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فقالت لها جدتها: كلمي يدك فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي - قلت: وقد تقدم ذكره - فقال: قد فعلت، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر وزنها أربعون منا في تور من ذهب، فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا سرف.


وقال غير الطبري: لما طب المأمون الدخول عليها دافعوه لعذؤر بها، فلم يندفع، فلما زفت إليه وجدها حائضا فتركها، فلما قعد للناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب وقال: يا أمير المؤمنين، هناك الله بما أخذت من الأمر باليمن والبركة، وشدة الحركة، والظفر بالمعركة، فأنشده المأمون:

 

فارس ماض بحربـتـه

 

صادق بالطعن في الظلم

رام أن يدمي فريسـتـه

 

فاتقـتـه مـن دم بـدم

يعرض بحيضها وهو من أحسن الكنايات، حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب الكنايات، وقد رويت هذه القصة على غير هذا الوجه، والله أعلم بالصواب.


وجرى هذا كله في شهر رمضان سنة عشر ومائتين، وعقد عليها في سنة اثنتين ومائتين، وتوفي المأمون وهي في صحبته، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقيت بعده إلى أن توفيت يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر بيع الأول سنة إحدى وسبعين ومائتين وعمرا ثمانون سنة، لأن مولدها ليلة الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائة وكانت وفاتها ببغداد، ويقال: إنها دفنت في قبة مقابلة مقصورة جامع السلطان وإنها باقية إلى الآن، رحمها الله تعالى.


وفم الصلح - بفتح الفاء وبعدها ميم وكسر الصاد المهملة وبعد اللام الساكنة جاء مهملة - وهي بلدة على دجلة قريبة من واسط، كذا ذكره السمعاني. وقال العماد الكاتب في الخريدة: الصلح نهر كبير، يأخذ من دجلة بأعلى واسط عليه نواح كثيرة، وقد علا النهر وآل أمر تلك المواضع إلى الخراب.


قلت: والعماد بذلك أخبر من السمعاني، لأنه أقام بواسط زمانا طويلا، متولي الديوان بها.