ابن العلاف الشاعر

أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني الشاعر المشهور؛ كان من الشعراء المجيدين، وحدث عن أبي عمر الدوري المقرئ وحميد بن مشعدة البصري ونصر بن علي الجهضمي ومحمد بن إسماعيل الحساني، وروى عنه عبد الله بن الحسن بن النخاس وأبو الحسن الخراجي القاضي وابو حفص ابن شاهين وغيرهم، وكان ينادم الإمام المعتضد بالله.

وقال: بت ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندامائه، فأتانا خادم ليلاً فقال: أمير المؤمنين يقول: أرقت الليلة بعد انصرافكم فقلت:

ولما انتبهنا للخيال الذي سرى

 

إذا الدار قفر والمزار بعيد

 

وقد أرتج علي تمامه، فمن أجازه بما يوافق غرضي أمرت له بجائزة، قال: فأرتج على الجماعة وكلهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت:

 

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي

 

لعل خيالاً طـارقـاً سـيعـود

فرجع الخادم إليه ثم عاد فقال: أمير المؤمنين يقول: قد أحسنت، وقد أمر لك بجائزة.


وكان لأبي بكر المذكور هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه، فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بهذه القصيدة وقد قيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز-الآتي ذكره إن شاء الله تعالى-وخشي من الإمام المقتدر أن يتظاهر بها لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وعرض به في ابيات منها، وكانت بينهما صحبة أكيدة.


وذكر محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه الصغير الذي سماه "المعارف المتأخرة" في ترجمة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات ما مثاله: قال الصاحب أبو القاسم ابن عباد: أنشدني أبو الحسن ابن أبي بكر العلاف وهو الأكول المقدم في الأكل في مجالس الرؤساء والملوك قصائد أبيه في الهر، وقال: إنما كنى بالهر عن المحسن بن الفرات أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه.


قلت أنا: وهذا المحسن ولد الوزير المذكور، وسيأتي خبر ذلك في ترجمة أبيه أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات إن شاء الله تعالى.


وذكر صاعد اللغوي في كتاب "الفصوص" قال: حدثني أبو الحسن المرزباني قال: هويت جارية لعلي بن عيسى غلاماً لأبي بكر ابن العلاف الضرير، ففطن بهما فقتلا جميعاً وسلخا وحشيت جلودهما تبناً، فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه بها وكنى عنه بالهر، والله أعلم.


وهي من أحسن الشعر وأبدعه، وعددها خمسة وستون بيتاً، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها، وأولها:

 

يا هر فارقتـنـا ولـم تـعـد

 

وكنت عندي بمنـزل الـولـد

فكيف ننفك عن هـواك وقـد

 

كنت لنا عـدة مـن الـعـدد

تطرد عنا الأذى وتحـرسـنـا

 

بالغيب من حية ومـن جـرد

وتخرج الفأر من مكامـنـهـا

 

ما بين مفتوحها إلى الـسـدد

يلقاك في البيت منـهـم مـدد

 

وأنت تلـقـاهـم بـلا مـدد

لا عدد كان منك متـفـلـتـاً

 

منهم ولا واحد مـن الـعـدد

لا ترهب الصيف عند هاجـرة

 

ولا تهاب الشتاء في الجـمـد

وكان يجري ولا سـداد لـهـم

 

أمرك في بيتنا عـلـى سـدد

حتى اعتقدت الأذى لجيرتـنـا

 

ولم تكن للأذى بمـعـتـقـد

وحمت حول الردى بظلمـهـم

 

ومن يحم حول حـوضـه يرد

وكان قلبي عليك مـرتـعـداً

 

وأنت تنساب غير مـرتـعـد

تدخل برج الحـمـام مـتـئداً

 

وتبلغ الفـرخ غـير مـتـئد

وتطرح الريش في الطريق لهم

 

وتبلغ اللحـم بـلـع مـزدرد

أطعمك الغي لحمهـا فـرأى

 

قتلك أربابهـا مـن الـرشـد

حتى إذا داوموك واجتـهـدوا

 

وساعد النصر كيد مجـتـهـد

كادوك دهراً فما وقعت وكـم

 

أفلت من كيدهم ولـم تـكـد

فحين أخفرت وانهمكـت وكـا

 

شفت وأسرفت غير مقتصـد

صادوك غيظاً عليك وانتقمـوا

 

منك وزادوا ومن يصد يصـد

ثم شفوا بالحديد أنـفـسـهـم

 

منك ولم يرعووا علـى أحـد

ومنها:

فلم تزل للحمام مرتصـداً

 

حتى سقيت الحمام بالرصد

لم يرجموا صوتك الضعيف كما

 

لم ترث منها لصوتها الغـرد

أذاقك الموت ربـهـن كـمـا

 

أذقـت أفـراخـه يداً بــيد

ومنها:

كأن حبلاً حوى بجـودتـه

 

جيدك للخنق كان ممن مسد

كأن عيني تراك مضطربـاً

 

فيه وفي فيك رغوة الزبد

وقد طلبت الخلاص منه فلم

 

تقدر على حيلة ولم تجـد

فجدت بالنفس والبخيل بهـا

 

أنت ومن لم يجد بها يجـد

فما سمعنا بمثل مـوتـك إذ

 

مت ولا مثل عيشك النكـد

عشت حريصاً يقوده طمـع

 

ومت ذا قاتـل بـلا قـود

ومنها:

 

يا مـن لــذيذ الـــفـــراخ أوقـــعـــه

 

ويحـك هـلا قـنـعــت بـــالـــغـــدد

ألم تخف وثبة الزمان كما وثبت في البرج وثبة الأسد

 

 

عاقبة الظلم لا تنام وإن

 

تأخـــرت مـــدة مـــن الـــمــــدد

أردت أن تـــأكـــل الـــفـــــراخ ولا

 

يأكـلـك الـدهـر أكـل مـضــطـــهـــد

هذا بـعــيد مـــن الـــقـــياس ومـــا

 

أعـزه فـي الــدنـــو والـــبـــعـــد

لا بـارك الـلـه فــي الـــطـــعـــام إذا

 

كان هـلاك الـنـفـوس فـي الـمـــعـــد

كم دخـلـت لـقـــمة حـــشـــاشـــره

 

فأخـرجـت روحـه مـن الـــجـــســـد

ما كـان أغـنـاك عـــن تـــســـورك ال

 

برج ولـو كــان جـــنة الـــخـــلـــد

قد كـنـت فــي نـــعـــمة وفـــي دعة

 

من الـعـزيز الـمـهـيمـن الـصـــمـــد

تأكـل مـن فــأر بـــيتـــنـــا رغـــداً

 

واين بـالـشــاكـــرين لـــلـــرغـــد

وكـنـت بـددت شـمـلـهـــم زمـــنـــاً

 

فاجـتـمـعـوا بـعـد ذلـــك الـــبـــدد

فلـم يبـقـوا لـنـا عـــلـــى ســـبـــد

 

في جـوف أبــياتـــنـــا ولا لـــبـــد

وفـرغـوا قـعـرهـا ومـــا تـــركـــوا

 

ما عـلـقــتـــه يد عـــلـــى وتـــد

وفـتـتـوا الـخـبـز فـي الـسـلال فـكـــم

 

تفـتـتـت لـلـعـــيال مـــن كـــبـــد

ومـزقـوا مــن ثـــيابـــنـــا جـــدداً

 

فكـلـنـا فـي الـمـصــائب الـــجـــدد

ونقتصر من هذه القصيدة على هذا القدر فهو زبدتها.

وكانت وفاته سنة ثماني عشرة، وقيل تسع عشرة وثلثمائة، وعمره مائة سنة، رحمه الله تعالى.

والنهرواني-بفتح النون وسكون الهاء وفتح الراء والواو وبعد الألف نون-هذه النسبة إلى النهروان، وهي بليدة قديمة بالقرب من بغداد، وقال السمعاني: هي بضم الراء، وليس بصحيح.