صلاح الدين الإربلي

أبو العباس أحمد بن عبد السيد بن شعبان بن محمد بن جابر بن قحطان الإربلي الملقب صلاح الدين، وهو من بيت كبير بإربل؛ وكان حاجباً عن الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، فتغير عليه واعتقله مدة، فلما أفرج عنه خرج منها قاصداً بلاد الشام في سنة ثلاث وستمائة صحبة الملك القاهر بهاء الدين أيوب ابن الملك العادل، فاتصل بخدمة الملك المغيث ابن الملك العادل، وكان قد عرفه من إربل، وحسنت حاله عنده، فلما توفي المغيث انتقل الصلاح إلأى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل، فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختص به في خلواته وجعله أميراً.

وكان الصلاح ذا فضيلة تامة ومشاركات حسنة. بلغني أنه كان يحفظ الخلاصة في الفقه للإمام الغزالي، وله نظم حسن ودوبيت رائق، وبه تقدم عند الملوك.

ثم إن الملك الكامل تغير عليه واعتقله في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة وهو بالمنصورة في قبالة الفرنج، ويره إلى قلعة القاهرة، ولم يزل في الاعتقال مضيقا عليه على هذه الحال إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فعمل الصلاح دوبيت وأملاه على بعض القيان، فغناه عند الملك الكامل، فاستحسنه وسأله: لمن هذا؟ فقال: للصلاح، فأمر بالإفراج عنه، والدوبيت المذكور:

ما أمر تجنبيك على الصب خفي

 

أفنيت زماني بالأسى والأسـف

ماذا غضب بقدر ذنبي ولـقـد

 

بالغت وما أردت إلا تـلـفـي

وقيل: إن الدوبيت الذي كان سبب خلاصه قوله:

اصنع ماشئت انت أنت المحبوب

 

مالي ذنب، بلى كما قلت ذنوب

هل تسمح بالوصال في ليلتـنـا

 

تجلو صدأ القلب وتعفو وأتوب

فلما خرج عادت مكانته عنده إلى أحسن مما كانت عليه.


وكان الملك الكامل قد تغير على بعض إخوته - وهو الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل - فدخل على الصلاح وسأله أن يصلح أمره مع أخيه الملك الكامل، فكتب الصلاح إليه:

من شـــرط صـــــــاحـــــــب مـــــــصـــــــر أن يكـــــــون كــمـــا      قد كـان يوســـــــف فـــــي الــــــحـــــــســـــــنـــــــى لإخـــــــــوتـــــــــــــــه
أســـوا فـــقـــابــــلــــهــــم بــــالــعـــــفـــــو، وافــــتــــقـــروا          فبـــرهــــم، وتــــولاهـــــــم بــــــرحــــــــــــمـــــــــــــــتـــــــــــــــه

وعند وصول الأنبرور صاحب صقلية إلى ساحل الشام في سنة ست وعشرين وستمائة بعث الملك الكامل الصلاح إليه رسولاً، فلما قرر القواعد واستحلفه كتب إلى الملك الكامل: 

زعم الزعيم الأنبرور بـأنـه

 

سلم يدوم لنا على أقـوالـه

شرب اليمين فإن تعرض ناكثاً

 

فليأكلن لذاك لحم شـمـالـه

ومن شعره أيضاً:

وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهـم

 

قطعوا إليك مسافة الآجال

وصل البنون إلى محل أبيهم

 

وتجهز الآباء للتـرحـال

وأنشدني بعض أصحابنا له:

يوم القيامة فيه ما سمـعـت بـه

 

من كل هول فكن منه على حذر

يكفيك من هوله أن لست تبلـغـه

 

إلا إذا ذقت طعم الموت في السفر

وكتب إليه شرف الدين ابن عنين الشاعر الدمشقي كتابناً من دمشق إلى الديار المصرية، قال لي صاحبنا عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان النحوي المترجم الموصلي: إن هذا الكتاب كان على يده، وتضمن الوصية عليه، وفي أوله:

أبثك ما لقيت من الـلـيالـي

 

فقد قصت نوائبها جنـاحـي

وكيف يفيق من عنت الـرزايا

 

مريض ما يرى وجه الصلاح

وللصلاح المذكور ديوان شعر وديوان دوبيت، وما زال وافر الحرمة عالي المنزلة عنده وعند الملوك. فلما قصد الملك الكامل بلاد الروم وهو في الخدمة مرض في المعسكر بالقرب من السويداء، فحمل إلى الرها، فمات قبل دخولها في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بظاهرها، وقيل: مات يوم السبت العشرين من ذي الحجة ودفن بظاهر الرها بمقبرة باب حران، ثم نقله ولده من هناك إلى الديار المصرية، فدفنه في تربة هناك بالقرافة الصغرى في آخر شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكنت يومئذ بالقاهرة.

وكان تقدير عمره يوم وفاته ستين سنة، رحمه الله تعالى؛ ثم وقفت على تاريخ مولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بإربل.

والإربلي - بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وبعدها لام - هذه النسبة إلى إربل، وهي مدينة كبيرة بالقرب من الموصل، من جهتها الشرقية.