ذو النون المصري

أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم - وقيل: الفيض بن إبراهيم - المصري المعروف بذي النون، الصالح المشهور، أحد رجال الطريقة؛ كان أوحد وقته علماً وورعاً وحالاً وأدباً، وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن الامام مالك رضي الله عنه؛ وذكر ابن يونس عنه في تاريخه أنه كان حكيماً فصيحاً، وكان أبوه نوبيا، وقيل: من أهل إخيم، مولى لقريش.

وسئل عن سبب توبته فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض فخرجت منها سكرجتان: إحداهما ذهب والأخرى فضة، وفي إحادهما سمسم وفي الاخرى مساء، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا، فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني.

وكان قد سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده مكرماً؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا بذي النون. وكان رجلاً نحيفاً تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية، وشيخه في الطريقة شقران العابد.

ومن كلامه: إذا صحت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح.

وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي بمكة: سمعت ذا النون وفي يده الغل وفي رجليه القيد وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد:

لك من قلبي المكان المصون

 

كل لوم علي فـيك يهـون

لك عزم بأن أكـون قـتـيلاً

 

فيك والصبر عنك مالا يكون

ووقفت في بعض المجاميع على شيء من أخبار ذي النون المصري، رحمه الله تعالى، فقال: إن بعض الفقراء من الناس تلامذته فارقه من مصر وقدم بغداد فحضر بها سماعاً، فلما طاب القوم وتواجدوا قام ذلك الفقير ودار واستمع، ثم صرخ ووقع، فحركوه فوجدوه ميتا، فوصل خبره إلى شيخه ذي النون فقال لأصحابه: تجهزوا حتى نمشي إلى بغداد، فلما فرغوا من أشغالهم خرجوا إليها فقدموا عليها، وساعة قدومهم البلد قال الشيخ ائتوني بذلك المغني، فأحضروه إليه، فسأله عن قضية ذلك الفقير، فقص عليه قصته. فقال له: مبارك؛ ثم شرع هو وجماعته في الغناء، فعند ابتدائه فيه صرخ الشيخ على ذلك المغني فوقع ميتا، فقال الشيخ: قيل بقتيل، أخذنا ثأر صاحبنا؛ ثم أخذ في التجهيز والرجوع إلى الديار المصرية، ولم يلبث ببغداد بل عاد من فوره.

قلت: وقد جرى في زمني شيء من هذا يليق أن أحكيه ههنا، وذلك أنه كان عندنا بمدينة إربل مغن موصوف بالحذق والإجادة في صنعة الغناء يقال له: الشجاع جبريل بن الأواني، فحضر سماعاً قبل سنة عشرين وستمائة، فإنني أذكر الواقعة وأنا صغير، وأهلي وغيرهم يتحدثون بها في وقتها، فغنى الشجاع المذكور القصيدة الطنانة البديعة التي لسبط ابن التعاويذي - الآتي ذكره في حرف الميم في المحمد ين إن شاء الله تعالى - وأولها:  

سقاك سار من الموسمي هتان

 

ولا رقت للغوادي فيك أجفان

 

إلى أن وصل إلى قوله منها:

 

ولي إلى البان من رمل الحمى وطر

 

فاليوم لا الرمل يصيبني ولا البـان

وما عسى يدرك المشتاق من وطـر

 

إذا بكى الربع والأحباب قد بـانـوا

كانوا معاني المغاني، والمنـازل أم

 

وات إذا لم يكن فـيهـن سـكـان

لله كم قمرت لـبـي بـجـوك أق

 

مار وكم غازلتنـي فـيك غـزلان

وليلة بات يجلـو الـراح مـن يده

 

فيها أغن خفيف الـروح جـذلان

خال من الهم في خلخـالـه حـرج

 

فقلبه فـارغ والـقـلـب مـلآن

يذكي الجوى بارد من ثغره شـبـم

 

ويوقظ الوجد طرف منه وسـنـان

إن يمسى ريان من ماء الشباب فلي

 

قلب إلى ريقه المعسول ظـمـآن

بين السيوف وعـينـيه مـشـاركة

 

من أجلها قيل للآغمـاد أجـفـان

فلما انتهى إلى هذا البيت قام بعض الحاضرين وقال له: يا شجاع، وأعد ما قلته، فأعاده مرتين أو ثلاثاً وذلك الشيخ متواجد، ثم صرخ صرخة هائلة ووقع، فظنوه قد أغمي عليه، فافتقدوه بعد أن انقطع حسه فوجدوه قد مات، فقال الشجاع: هكذا جرى في سماعي مرة أخرى، فإنه مات فيه شخص آخر.

وهذه القصيدة من غرر القصائد، وهي طويلة مدح بها الامام الناصر لين الله أبا العباس أحمد بن المستضيء أمير المؤمنين العباسي في يوم عيد الفطر من سنة إحدى وثمانين وخمسائة، والله أعلم.

ومحاسن الشيخ ذي النون كثيرة.

وتوفي في ذي القعدة سنة خمس وأربعين - وقيل: ست وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين ومائتين - رضي الله عنه بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى، على قبره مشهد مبني، وفي المشهد أيضاً قبور جماعة من الصالحين رضي الله عنهم وزرته غير مرة.

وثوبان: بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون.