جريرالشاعر

أبو حزرة جرير بن عطية بن الخطفى، واسمه حذيفة، والخطفى لقبه، ابن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مر التميمي الشاعر المشهور؛ كان من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض، وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم بهذا الشأن، وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل. قال محمد بن سلام: سمعت يونس يقول: ما شهدت مشهداً قط وذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما.

وقال أيضا: الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة؛ ويقال: إن بيوت الشعر أربعة: فخر ومديح وهجاء ونسيب، وفي الأربعة فاق جرير غيره، فالفخر قوله:

إذا غضبت عليك بنو تميم

 

حسبت الناس كلهم غضابا

 

والمديح قوله:

 

أستم خير من ركب المطايا

 

واندى العالمين بطون راح

 

والهجاء قوله:

 

فغض الطرف إنك من نمير

 

فلا كعبا بلغت ولا كلابـا

 

والنسيب قوله:

 

إن العيون التي في طرفها حـور

 

قتتلننا ثم لـم يحـين قـتـلانـا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

 

وهن أضعف خلق الله أركـانـا

 

وحكى أبو عبيدة معمر بن المثنى - الآتي ذكره إن شاء اله تعالى - قال: التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان، فقال الفرزدق لجرير:

 

فإنك لاقٍ بالمشاعر من منـى

 

فخاراً فخبرني بمن أنت فاخر

 

فقال له جرير: لبيك اللهم لبيك! قال أبو عبيدة: فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون به.
وحكى أبو عبيدة أيضاً: خرج جرير والفرزدق مرتدفين على ناقة إلى هشام ابن عبد الملك الأموي، وهو يومئذ بالرصافة، فنزل جرير لقضاء حاجته، فجعلت الناقة تتلفت فضربها الفرزدق وقال:

 

إلام تلفتين وأنـت تـحـتـي

 

وخير الناس كلهم أمـامـي

متى تردي الرصافة تستريحي

 

من التهجير والدبر الدوامـي

 

ثم قال: الآن يجيئني جرير فأنشده هذين البيتين فيقول:

 

تلفت أنها تحـت ابـن قـينٍ

 

إلى الكيرين والفاس الكهام

متى ترد الرصافة تخز فيها

 

كخزيك في المواسم كل عام

 

قال: فجاء جرلاير والفرزدق يضحك، فقال: ما يضحكك يا أبا فراس؟ فأنشده البيتين الأولين، فأنشده جرير البيتين الآخرين، فقال الفرزدق: والله لقد قلت هذا، فقال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟ وذكر المبرد في الكامل أن الفرزدق أنشد قول جرير:

 

ترى برصاً بأسفل أسكتيها

 

كعنفقة الفرزدق حين شابا

 

فلما أنشد النصف الول من البيت ضرب الفرزدق يده على عنفقته توقعاً لعجز البيت.


وحكى أبو عبيدة قال: كان جرير مع حسن تشبيبه عفيفاً، وكان الفرزدق فاسقا، وكان يقول: ما أحوجه إلى صلابة شعري وأحوجني إلى رقة شعره.


وحكى أبو عبيدة أيضاً قال: رأت أم جرير في نومها وهي حامل به كانها ولدت حبلاً من شعر أسود، فلما وقع منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت مرعوبة، فأولت الرؤيا، فقيل لها: تلدين غلاما شاعراً ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس، فما ولدته سمته جريراً باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها، والجرير الحبل.


وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني في ترجمة جرير المذكور أن رجلاً قال لجرير: من أشعر الناس؟ قال له: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها فصاح به: اخرج يا أيت، فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته، فقال: أترى هذا؟ قال: نعم، قال: أوتعرفه؟ قال: لا قال: هذا أبي، أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟ قلت: لا، قال: مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن، ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعراً وقارعهم به فغلبهم حميعاً.


وحكى صاحب الجليس والأنيس في كتابه عن محمد بن حبيب عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قيل له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:

 

لو كنت أعلم أن آخر عهدهم

 

يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل

 

فقال: كان يقلع عينيه ولا يرى مظعن أحبابه.


وقال في الأغاني أيضاً: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شئت لعب، ومن إذا شئت جد، فاذا لعب أطمعك لعبه فيه، وإذا رمته بعد عليك، وإذا حد فيما قصد له آيسك من نفسه، قال: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول إذا لعب:

 

إن الذين غدوا بلبك غـادروا

 

وشلا بعينك لايزال معينـا

غيض من عبراتهن وقلن لي

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينا

 

ثم قال حين جد:

 

إن الذي حرم المكارم تغلـبـاً

 

جعل النبوة والخـلافة فـينـا

مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم

 

يا خزر تغلب من أب كأبينـا

هذا ابن عمي في دمشق خليفة

 

لو شئت ساقكم إلي قـطـينـا

 

قال: فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله قال: مازاد ابن المراغة على أن جعلني شرطياً له، أما إنه لو قال او شاء ساقكم إلي قطينا لسقتهم إليه كما قال، قلت: وهذه الأبيات هجا بها جرير الأخطل التغلبي الشاعر المشهور.


وقوله فيها جعل النبوة والخلافة فينا إنما قال ذلك لأن جريرا تميمي النسب، وتميم ترجع إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبوة والخلافة وبنو تميم يرجعون إلى مضر.


وقوله يا خزر تغلب خزر - بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي وبعدها راء - وهو جمع أخزر مثل أحمر وحمير وأصفر وصفر وأسود وسود، وكل ما كان من هذا الباب، والأخزر: الذي عينيه ضيق وصفر، وهذا وصف العجم، فكأنه نسبه إلى المعجم وأخرجه عن العرب، وهذا عند العرب من النقائص الشنيعة.


وقوله هذا ابن عمي في دمشق خليفة يريد به عبد الملك بن مروان الأموي، لأنه كان في عصره.


والقطين - بفتح القاف - الخدم والتباع.


وقول عبد الملك مازاد ابن المراغة هو بفتح الميم وبعدها راء وبعد اللف غين معجمة وهاء، وهذا لقب لأم جرير هجاء به الأخطل المذكور، ونسبها إلى أن الرجال يتمرغون عليها، ونستغفر الله تعالى من ذكر مثل هذا، لكن شرح الواقعة أحوج إلى ذلك.
ومن أخبار جرير أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده قصيدة أولها:

 

أتصحو أم فؤادك غير صاحي

 

عشية هم صحبك بالـرواح

تقول العاذلات علاك شـيب

 

أهذا الشيب بمنعني مزاحي

تعزت أم حزرة قم قـالـت

 

رأيت الموردين ذوي لقـاح

ثقي بالله ليس لـه شـريك

 

ومن عند الخليفة بالنجـاح

سأشكر إن رددت إلي ريشي

 

وانبت القوادم في جناحـي

ألستم خير من ركب المطايا

 

وأندى العالمين بطون راح

 

قال جرير: فلما انتهيت إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئا فاستوى جالساً وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم التفت إلي وقال: يا جرير، أترى أم حزرة يرويها مائة ناقة من نعم بمني كلب؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن لم تروها فلا أرواها الله تعالى، قال: فأمر لي بها كلها سود الحدق، قلت: يا أمير المؤمنين، نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، والإبل أباق، فلو أمرت لي بالرعاء، فأمر لي بثمانية، وكان بين يديه صحاف من الذهب وبيده قضيب، فقلت: ياأمير المؤمنين، والمحلب؟ وأشرت إلى إحدى الصحاف فنبذها إلي بالقضيب وقال: خذها لا نفعتك، وإلى هذه القضية أشار جرير بقوله:

 

أعطو هيدة تحدوها ثمـانـية

 

ما في عطائهم من ولا سرف

 

قلت: هنيدة - بضم الهاء على صورة التصغير - اسم علم على المائة، وأكثر علماء الأدب يقولون: لا يجوز إدخال اللف واللام عليها، وبعضهم يجيز ذلك، قال أبو الفتح بن أبي حصينة السلمي الحلبي الشاعر المشهور من جملة قصيدة:

 

أيها القلب لم يدع لك فـيوص

 

ل العذارى نصف الهنيدة عذرا

يعني خمسين سنة التي هي نصف المائة، والله أعلم.

ولما مات الرزدق وبلغ خبره جريراً بكى وقال: أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجماً واحداً وكل واحد منا مشغول بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه، وكذلك كان. وتوفي في سنة عشر ومائة، وفيها مات الفرزدق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقال أبو الفرج ابن الجوزي: كانت وفاة جرير في سنة إحدى عشرة ومائة، وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف: إن أمه حملت به سبعة أشهر، وفي ترجمة الفرزدق طرف من خبر موته فلينظر هناك إن شاء الله تعالى. وكانت وفاته باليمامة، وعمر نيفا وثمانين سنة.
وحزرة: بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء.

والخطفى: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة والفاء وبعدها ياء - وقد تقدم الكلام في أنه لقب عليه، والله أعلم.