ابن أبي دواد

أبو عبد الله أحمد بن أبي دواد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد ابن سلام بن مالك بن عبد هند بن لخم بن مالك بن قنص بن منعة بن برجان بن دوس ابن الديل بن أمية بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان الإيادي القاضي؛ كان معروفاً بالمروءة والعصبية، وله مع المعتصم في ذلك أخبار مأثورة، ذكره أبو عبيد الله المرزباني في كتاب المرشد في أخبار المتكلمين فقال: قيل: إن أصلهم من قرية بقنسرين، واتجر أبوه إلى الشام، وأخرجه معه وهو حدث فنشأ أحمد في طلب العلم وخاصة الفقه والكلام، حتى بلغ ما بلغ، وصحب هياج بن العلاء السلمي، وكان من أصحاب واصل بن عطاء، فصار إلى الاعتزال.

قال أبو العيناء: مارأيت رئيسا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: سمعت ابن أبي دواد في مجلس المعتصم وهو يقول: إني لأمتنع من تكليم الخلفاء بحضرة محمد بن عبد الملك الزيات الوزير في حاجة كراهة أن أعلمه ذلك، ومخافة أن أعلمه التأتي لها؛ وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكانوا لايبدؤهم أحد حتى يبدؤوه، وقال أبو العيناء: كان ابن ابي دواد شاعراً مجيداً فصيحاً بليغاً.

وقال المرزباني: وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء وروى له أبياتاًحساناً، وكان يقول: ثلاثة ينبغي أن يبجلوا وتعرف أقدارهم: العلماء وولاة العدل والإخوان، فمن استخف بالعلماء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته.

وقال إبراهيم بن الحسن: كنا عند المأمون فذكروا من بايع من الأنصار ليلة العقبة، فاختلفوا في ذلك، ودخل ابن أبي دواد فعدهم واحدا واحدا بأسمائهم وكناهم وأنسابهم، فقال المأمون: إذا استجلس الناس فاضلا فمثل أحمد، فقال أحمد: بل إذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين الذي يفهم عنه، ويكون أعلم بما يقوله منه. ومن كلام أحمد: ليس بكامل من لم يحمل وليه على منبر ولو أنه حارس، وعدوه على جذع ولو أنه وزير.

وقال أبو العيناء: كان الأفشين يحسد أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي للعربية والشجاعة، فاحتال عليه حتى شهد عليه بجناية وقتل، فأخذه ببعض أسبابه، فجلس له وأحضره وأحضر السياف ليقتله، وبلغ ابن أبي دواد الخبر، فركب في وقته مع من حضر من عدوله، فدخل على الافشين وقد جيء بأبي دلف ليقتل، فوقف ثم قال: إني رسول أمير المؤمنين إليك، وقد أمرك أن لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً حتى تسلمه إلي، ثم التفت إلى العدول، وقال: اشهدوا أني قد أديت الرسالة إليه عن أمير المؤمنين والقاسم حي معافى، فقالوا: قد شهدنا، وخرج، فلم يقدر الافشين عليه، وصار ابن أبي دواد إلى المعتصم من وقته، وقال: ياأميرالمؤمنين، قد أديت عنك رسالة لم تقلها لي، ما أعتد بعمل خير خيراً منها، وإني لأرجو لك الجنة بها، ثم أخبره الخبر، فصوب رأيه ووجه من أحضر القسم فأطلقه ووهب له وعنف الافشين فيما عزم عليه.

وكان المعتصم قد اشتد غيظه على محمد بن الجهم البرمكي، فأمر بضرب عنقه، فلما رأى ابن أبي دواد ذلك، وأنه لاحيلة له فيه، وقد شد برأسه وأقيم في النطع وهز له السيف، قال ابن أبي دواد للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته؟ قال: ومن يحول بيني وبينه؟ قال: يأبى الله تعالى ذلك، ويأباه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث إذا قتلته حتى تقيم البينة على ما فعله، وأمره باستخراج ما اختانه أقرب عليك وهو حي، فقال: احبسوه حتى يناظر، فتأخر أمره على مال حمله، وخلص محمد.

وحدث الجاحظ أن المعتصم غضب على رجل من أهل الجزيرة الفراتية وأحضر السيف والنطع، فقال له المعتصم: فعلت وصنعت، وأمر بضرب عنقه فقال له ابن أبي دواد: يا أمير المؤمنين، سبق السيف العدل، فتأن في أمره فإنه مظلوم، قال: فسكن قليلاً، قال ابن أبي دواد: وغمرني البول فلم أقدر على حبسه، وعلمت أني إن قمت قتل الرجل، فجعلت ثيابي تحتي وبلت فيها حتى خلصت الرجل، قال: فلما قمت نظر المعتصم إلى ثيابي رطبة، فقال: يا أبا عبد الله كان تحتك ماء؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه كان كذا وكذا، فضحك المعتصم ودعا لي، وقال: أحسنت بارك الله عليك، وخلع عليه وأمر له بمائة ألف درهم.

وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: ابن أبي دواد روح كله من قرنه إلى قدمه، وقال لازون بن إسماعيل: ما رأيت أحداً قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دواد، وكان يسأل الشيء اليسير فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبي دواد فيكلمه في أهله وفي أهل الثغور وفي الحرمين وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب، فيجيبه إلى كل مايريد، ولقد كلمه يوما في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصي خراسان، فقال له: وما علي من هذا النهر؟ فقال: ياأمير المؤمنين، إن الله تعالى يسألك عن النظر في أمر أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أمر أدناها، ولم يزل يرفق به حتى أطلقها.

وقال الحسين بن الضحاك الشاعر المشهور لبعض المتكلمين: ابن ابي دواد عندنا لا يحسن اللغة وعندكم لا يحسن الكلام وعند الفقهاء لا يحسن الفقه، وهو عند المعتصم يعرف هذا كله.

وكان ابتداء اتصال ابن أبي دواد بالمأمون أنه قال: كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء، فإنى عنده يوماً إذ جاءه رسول المأمون فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: انتقل إلينا وجميع من معك من أصحابك، فلم يحب أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، وتكلمنا بحضرة المأمون فأقبل المأمون ينظر إلي إذا شرعت في الكلام ويتفهم ما أقول ويستحسنه، ثم قال لي: من تكون؟ فانتسبت له، فقال: ما أخرك عنا؟ فكرهت أن أحيل على يحيى، فقلت: حبسة القدر وبلوغ الكتاب اجله، فقال: لا أعلمن ما كان لنا من مجلس إلا حضرته، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم اتصل الأمر.

وقيل: قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون في آخر سنة اثنتين ومائتين وهو حدث سنه نيف وعشرون سنة، فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات منهم ابن أبي دواد، فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى: اختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دواد، فكثرواعلى المأمون، فقال: اختر منهم، فاختار عشرة فيهم ابن أبي دواد، ثم قال: اختر منهم، فاختار خمسة فيهم ابن أبي دواد، واتصل أمره، وأسند المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم، وقال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي دواد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك، ولاتتخذن بعدي وزيراً.

ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه، وامتحن ابن أبي دواد الإمام أحمد بن حنبل، وألزمه بالقول بخلق القرآن الكريم، وذلك في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين. ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دواد عنده، ولما مات الواثق بالله وتولى أخوه المتوكل فلج ابن أبي دواد في أول خلافته وذهب شقه الأيمن، فقلد المتوكل ولده محمد بن احمد القضاء مكانه، ثم عزل محمد بن احمد عن المظالم في سنة ست وثلاثين ومائتين، وقلد يحيى بن أكثم.

وكان الواثق قد أمر أن لا يرى أحد من الناس محمد بن عبد الملك الزيات الوزير إلاقام له، فكان ابن أبي دواد إذا رآه قام واستقبل القبلة يصلي، فقال ابن الزيات:

صلى الضحى لما استفاد عدواتي

 

وأراه ينسك بعـدهـا ويصـوم

لا تعد من عداوة مـسـمـومة

 

تركتك تقعـد تـارة وتـقـوم

 

ومدحه جماعة من شعراء عصره؛ قال علي الرازي: رأيت أبا تمام الطائي عند ابن أبي دود ومعه رجل ينشد عنه قصيدة منها:

 

لقد انست مساوىء كل دهرٍ

 

محاسن أحمد بن أبـي دواد

وما سافرت في الآفـاق إلا

 

ومن جدواك راحلتي وزادي

فقال له ابن ابي دواد: هذا المعنى تفردت به أو أخذته؟ فقال: هو لي وقد ألممت فيه بقول أبي نواس:

 

وإن جرت الألفاظ منا بمدحة

 

لغيرك إنساناً فأنت الذي تعني

 

ودخل أبو تمام عليه يوماً، وقد طالت أيامه في الوقوف ببابه ولا يصل إليه، فعتب عليه مع بعض أصحابه، فقال له ابن ابي دواد: أحسبك عاتبا يا أبا تمام، فقال: إنما يعتب علىواحد وأنت الناس جميعا فكيف يعتب عليك! فقال له: من أين لك هذا يا أبا تمام؟ فقال: من قول الحاذق - يعني أبانواس - في الفضل بن الربيه:

 

وليس لله بمسـتـنـكـر

 

أن يجمع العالم في واحد

ولما ولي ابن أبي دواد المظالم قال أبو تمام قصيدة يتظلم إليه، من جملتها قوله

إذا أنت ضيعت القريض وأهلـه

 

فلاعجب إن ضيعته الأعـاجـم

فقد هز عطفيه القريض ترفعـاً

 

بعدلك مذ صارت إليك المظالم

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

 

بغاة العلى من أين تؤتى المكارم

قلت: ومدحه أبو تمام ايضا بقصيدته التي أولها:

أرأيت أي سوالف وخدود

 

عنت لنا بين اللوى فزرود

وما ألطف قوله فيها:

وإذا أراد الله نـشـر فـضـيلة

 

طويت أتاح لها لسان حـسـود

لولا اشتعال النار فيمـا جـاورت

 

ما كان يعرف طيب عرف العود

ومدحه مروان بن أبي الجنوب بقوله:

لقد حازت نزار كل مـجـد

 

ومكرمة على رغم الأعادي

فقل للفاخرين علـى نـزار

 

ومنهم خنـدف وبـنـو إياد

رسول الله والخلفـاء مـنـا

 

ومنا أحمد بـن أبـي دواد

وليس كمثلهم في غير قومي

 

بموجود إلى يوم التـنـادي

نبي مرسـل وولاة عـهـد

 

ومهدي إلى الخيرات هادي

ولما سمع هذا الشعرأبو هفان المهزمي قال:

فقل للفاخرين عـلـى نـزار

 

وهم في الأرض سادات العباد

رسول الله والخلـفـاء مـنـا

 

ونبرأ من دعـي بـنـي إياد

ومـا مـنـا إياد إن أقــرت

 

بدعوة أحمـد بـن أبـي دواد

 

فقال ابن أبي دواد: مابلغ مني احد مابلغ مني هذا الغلام المهزمي، لولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته عقابا لم يعاقب أحد بمثله، جاء إلى منقبة كانت لي فنقضها عروة عروة.


وكان ابن أبي دواد كثيراً ما ينشد، ولم يذكرأنهما له أو لغيره:

 

ما أنت بالسبب الضعيف، وإنما

 

نجح الأمور بقوة الأسـبـاب

فاليوم حاجتنـا إلـيك، إنـمـا

 

يدعى الطبيب لشدة الأوصاب

 

وذكر غير المرزباني عن أبي العيناء أن المعتصم غضب على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني - قلت: وسيأتي ذكره في ترجمة أبيه إن شاء الله تعالى - وأشخصه من ولايته لعجز لحقه في مال طلب من أسباب غير ذلك، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد، فتكلم فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه، فقال له المعتصم: يا أبا عبد الله، جلست في غير مجلسك، فقال: ماينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا، فقال له: وكيف؟ قال: لأن الناس يزعمون أنه ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيشفع، قال: فارجع إلى مجلسك، قال: مشفعاً أو غير مشفع؟ قال: بل مشفعا، فارتفع إلى مجلسه، ثم قال: إن الناس لايعلمون رضى أمير المؤمنين عنه إن لم يخلع عليه، فأمر بالخلع عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، وقد استحق هو وأصحابه رزق ستت أشهر لا بد ان يقبضوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة، فقال: قد أمرت بها، فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وإن الناس في الطرق ينتظرون الايقاع به، فصاح به رجل: الحمد الله على خلاصك يا سيد العرب، فقال له: اسكت، سيد العرب والله احمد بن أبي دواد.


وكان بينه وبين الوزير ابن الزيات منافسات وشحناء، حتى إن شخصاً كان يصحب القاضي المذكور ويختص بقضاء حوائجه منعه الوزير المذكور من الترداد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير وقال له: والله ما أجيئك متكثراً بك من قلة، ولامتعزراً بك من ذلة، ولكن أمير المؤمنين رتبك مرتبة أوجبت لقاءك، فان لقيناك فله، وإن تأخرنا عنك فلك، ثم نهض من عنده.
وكان فيه من المكارم والمحامد مايستغرق الوصف.


وهجا بعض الشعراء الوزير ابن الزيات بقصيدة عدد أبياتها سبعون بيتاً فبلغ خبرها القاضي أحمد، فقال:

أحسن من سبعين بيتاً هجا

 

جمعك معناهن في بـيت

ما أحوج الملك إلى مطرة

 

تغسل عنه وضر الزيت

فبلغ ابن الزيات ذلك، ويقال: إن بعض أجداد القاضي أحمد كان يبيع القار، فقال:

يا ذا الذي يطمع في هجونا

 

عرضت بي نفسك للموت

الزيت لايزري بأحسابـنـا

 

أحسابنا معروفة الـبـيت

قيرتم الملك فلم نـنـقـه

 

حتى غسلنا القار بالـزيت

وأصابه الفالج لست خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بعد موت عدوه الوزير المذكور بمائة يوم وأيام، وقيل: بخمسين يوماً، وقيل: بسبعة وأربعين يوماً، وسيأتي تاريخ وفاة الوزير في حرف الميم.
ولما حصل له الفالج ولي موضعه ولده أبو الوليد محمد، ولم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه وقل شاكروه، حتى عمل فيه إبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره قبل هذا:

عفت مساو تبدت منك واضحة

 

على محاسن أبقاها أبوك لكا

فقد تقدمت أبناء الكـرام بـه

 

كما تقدم آباء الـلـئام بـكـا

ولعمري لقد بالغ في طرفي المدح والذم، وهو معنى بديع. واستمر على مظالم العسكر والقضاء إلى سنة سبع وثلاثين ومائتين، فسخط المتوكل على القاضي أحمد المذكور وولده محمد، وأمر بالتوكيل على ضياعه، لخمس بقين من صفر من السنة المذكورة، وصرفه عن المظالم، ثم صرفه عن القضاء يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة، وأخذ من الولد مائة ألف وعشرين ألف دينار، وجوهراً بأربعين ألف دينار، وسيره إلى بغداد من سر من رأى، وفوض القضاء إلى القاضي يحيى بن أكثم الصيفي - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ولما شهد على ابن أبي دواد حين غضب عليه الخليفة بضياعه المأخوذة منه في الجناية حضر المجلس خلق كثير من الشهود وغيرهم، فقام رجل من الشهود - وكان القاضي منحرفا عنه في أيامه - فقال: تشهدنا عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال القاضي: لست هناك، وقال للباقين: اشهدوا علي، فجلس الرجل بخزي، وتعجب الناس من ثبوت القاضي وقوة قلبه في تلك الحال.

 

وتوفي القاضي أحمد المذكور بمرضه الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ونقل عنه أنه قال: ولدت بالبصرة سنة ستين ومائة، وقيل: إنه كان أسن من اقاضي يحيى بن أكثم بنحو عشرين سنة، وهو يخالف ما ذكرته في ترجمة يحيى، لكن كتبته على ما وجدته، والله أعلم بالصواب. وتوفي ولده محمد قبله بعشرين يوماً في ذي الحجة رحمهما الله تعالى.

 

وقد ذكر المرزباني في كتابه المذكور اختلافا كثيرا في تاريخ وفاته وموت ابنه، فأحببت ذكر جميع ما قاله؛ قال: ولى المتوكل ابنه أبا الوليد محمدابن أحمد القضاء والمظالم بالعسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين، ووكل بضياعه وضياع أبيه، ثم صولح على ألف ألف دينار، ومات أبو الوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوما، وذكر الصولي أن سخط المتوكل على ابن أبي دواد كان في سنة سبع وثلاثين، ثم ذكر المرزباني بعد هذا أن القاضي أحمد مات في المحرم سنة أربعين، ومات ابنه قبله بعشرين يوما، وقيل: مات ابنه في آخر سنة تسع وثلاثين، وكان موتهما ببغداد، وقيل: مات ابنه في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين، ومات أبوه يوم السبت لسبع بقين من المحرم سنة أربعين، وكان بين موتهما شهر أو نحوه، والله أعلم بالصواب في ذلك كله.

 

وقال أبو بكر ابن دريد: كان ابن أبي دواد مؤالفا لأهل الأدب من أي بلد كانوا، وكان قد ضم منهم جماعة يعولهم ويمونهم، فلما مات حضر ببابه جماعة منهم وقالوا: يدفن من كان ساقة الكرم وتاريخ الأدب ولا يتكلم فيه؟ إن هذا وهن وتقصير، فلما طلع سريره قام إليه ثلاثة منهم فقال أحدهم:

اليوم مات نظام الملك والـلـسـن

 

ومات من كان يستعدى على الزمن

وأظلمت سبل الآداب إذ حجـبـت

 

شمس المكارم في غيم من الكفـن

وتقدم الثاني فقال:

ترك المنابر والسرير تواضعاً

 

وله منابر لو يشـا وسـرير

ولغيره يجبي الخراج، وإنما

 

يجبى إليه محامـد وأجـور

وتقدم الثالث فقال:

وليس فتيق المسك ريح حنوطه

 

ولكنه ذاك الثناء المـخـلـف

وليس صرير النعش ما تسمعونه

 

ولكنه أصلاب قوم تقـصـف

وقال أبو بكر الجرجاني: سمعت أبا العيناء الضرير يقول: ما رأيت في الدنيا أقوم على أدب من ابن أبي دواد، ما خرجت من عنده يوماً قط فقال: يا غلام خذ بيده، بل قال: ياغلام اخرج معه، فكنت أتقد هذه الكلمة عليه، فلا يخل بها، ولا أسمعها من غيره.

وعلى الجملة فقد طالت هذه الترجمة، وإنما محاسنه كانت كثيرة، رحمه الله تعالى.

ودواد: بضم الدال المهملة وفتح الواو وبعد الألف دال ثانية مهملة.

والإيادي - بكسر الهمزة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف دال مهملة - نسبة إلى إياد بن نزار بن معد بن عدنان.