جعفر البرمكي

أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي وزير هارون الرشيد؛ كان من الكرم وسعة العطاء كما قد اشتهر، ويقال إنه لما حج...العطاء.

ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلة بلغها من الرشيد؛ قال إبراهيم: قال لي جعفر بن يحيى يوماً: إني استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غداً فهل أنت مساعدي؟ فقلت: جعلت فداك، انا أسعد بمساعدتك وأسر بمحادثتك، قال: فبكر إلي بكور الغراب؛ قال: فأتيه عند الفحجر فوجدت الشمعة بين يديه وهو ينتظرني للميعاد، فصلينا ثم أفضنا في الحديث، ثم قدم إلينا الطعام فأكلنا فلما غسلنا أيدينا جعلت علينا ثياب المنادمة وبخرنا وطيبنا ثم ضمخنا بالخلوق، ومدت الستارة، وظللنا بأنعم يوم مر بنا، ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب وقال: إذا أتى عبد الملك فأذن له - يعني قهرماناً له؛ فاتفق ان جاء عبد الملك ابن صالح عم الرشيد وهو من جلالة القدر والامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان الرشيد قد اجتهد أن يشرب معه قدحا فليم يقدر عليه رفعا لنفسه، فلما رفع لستر وطلع علينا سقط ما في أيدينا وعلمنا أن الحاجب قد غلط بينه وبين عبد الملك القهرمان، فأعظم جعفر ذاك وارتاع له، ثم ثام إليه إجلالاً، فلما نظر إلينا على تلك الحال دعا غلامه فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته ثم قال: اصنعوا بناماصنعتم بأنفسكم؛ ثم قال: اصنعوا بنا ما صنعتم بانفسكم؛ قال: فجاء الغلمان فطرحوا عليه ثياباً وخلقوه ودعا بالطعام فطعم وشرب ثلاثاً، ثم قال: لتخفف عني فإنه شيء والله ما شربته قط، فتهلل وجه جعفر وفرح، ثم التفت إليه فقال: جعلت فداك، قد تطولت وتفضلت وساعدت فهل من حاجة تبلغ إليها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى إن في قلب أمير المؤمنين علي هنة فاسأله الرضى عني، فقال له جعفر: قد رضي أمير المؤمنين عنك، ثم قال: وعلي عشرة آلاف دينار، فقال: هي لك حاضرة من مالي ولك من مال أمير المؤمنين ضعفها، ثم قال: وابني إبراهيم أحب أن اشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين، قال: وقد زوجه أمير المؤمنين ابنته العالية، قال: وأحب أن تخفق عليه الألوية، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. فانصرف بعد الملك ابن صالح، قال إبراهيم بن المهدي: فبقيت متعجباً من إقدامه على أمير المؤمنينمن غير استئذان وقلت: عسى أن يجيبه فيما سأل من الرضى والمال والولاية، فمتى أطلق لجعفر أو لغيره تزويج بناته؟

فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأرى ما يكون، فدخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي وإبراهيم بن عبد الملك بن صالح، فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالعالية بنت الرشيد وعقد له على مصر والرايات بين يديه وحملت البدر إلى منزل عبد الملك بن صالح، وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صرنا إلى منزله التفت إلينا فقال: تعلقت قلوبكم بحديث عبد المك فأحببتم علم آخره: لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال: كيف كان يومك ياجعفر؟ فقصصت عليه حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح، وكان متكئاً فاستوى جالساً وقال: ايه لله أبوك! فقلت: سألني في رضاك يا أمير المؤمنين، قال: نعم فبم أجبته؟ قلت: رضي أمير المؤمنين عنك، قال: قد أجزت، ثم ماذا؟ قلت: وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار، قال: فبم أجبته؟ قلت: وقد قضاها أمير المؤمنين عنك، قال: قد قضيت، ثم ماذا؟ قال: قد رغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بصهر منه، قال: فبم أجبته؟ قلت: قد زوجه أمبير المؤمنين ابنته العالية، قال: قد أمضيت ذلك، ثم ماذا لله أبوكظ قلت: واحب أن تخفق الألوية على رأسه، قال: فبم أجبته؟ قلت: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال: قد وليت، فأحضر إبراهيم والقضاة والفقهاء فحضروا وتمم له جميع ذلك من ساعته؛ قال ابراهيم بن المهدي: فوالله ما ادري أيهم أكرم وأعجب فعلا، ما ابتدأه عبد الملك من المساعدة وشرب الخمر ولم يكن شربها قط، ولبسه ما لبس من ثياب المنادمة وكان رجل جد، أم إقدام جعفرعلى الرشيد بما أقدم، وأم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر عليه.

وركب يوما الرشيد وجعفر يسايره، وقد بعث علي بن عيسى بهدايا خراسان بعد ولاية الفضل، فقال الرشيد لجعفر: أين كانت هذه أيام أخيك؟ قال: في منازل أربابها.

وبلغ الرشيد أن يهودياً ينجم بحكم في عمره ويقرب وقتاً، فأحضره وسأله عما قال فقال: استدللت من النجوم بكذا وكذا، ودخل جعفر فرأى غم الرشيد فقال له: أتحب أن يخرج هذا من صدرك؟ قال: نعم، قال: سله عن عمره فإنه بالمعرفة به أولى به من غيره، قال: فسأله عن ذلك فقال: هو كذا وكذا، فقال جعفر: اضرب الآن عنقه لتعلم خطأه في عمرك وعمره.

فيحكى ان الرشيد تغير عليه في آخر الأمر وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لايصبر عن جعفر وعن أخته هباسة بنت المهدي وكان يحضرهما إذا جلس للشرب فقال لجعفر: أزوجكما ليحل لك النظر غليها ولا تقربها فإني لا أطبق الصبر عنكما، فأجابه إلى ذلك، فزوجها منه، وكانا يحضران معه ثم يقوم عنهما وهما شابان، فجامعها جعفر فحملت منه فولدت له غلاما، فخاف الرشيد فسير به مع حواضن إلى مكة، واعطته الجواهر والنفقات. ثم إن عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها إلى الرشيد، فحج هارون سنة186 وبحث عن الأمر فعلمه، وكان جعفر يصنع للرشيد طعاماً بعسفان إذا حج، فصنع ذلك الطعام ودعاه فلم يحضر عنده، وكان ذلك أول تغير أمرهم.

وقيل كان سبب ذلك...من أمره ما كان.

وقيل من الأسباب أن جعفراً بنى داراً غرم عليها عشرين ألف درهم فرفع ذلك إلى الرشيد وقيل: هذه غرامة في دار فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك؟ فاستعظمه.

وحكي أن جعفر بن يحيى لما عزم على الانتقال إلى قصره هذا جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه اليه فاختاروا له وقتا من الليل، فلما حضر الوقت خرج على حمار من الموضع الذي كان منزله إلى قصره والطرق خالية والناس هادئون، فلما صار إلى سوق يحيى رأى رجلاً قائما وهو يقول:

 

يدبر بالنجوم وليس يدري

 

ورب النجم يفعل ما يريد

 

فاستوحش ووقف ودعا بالرجل فقال له: أعد علي ما قلت، فأعاده فقال: ما أردت بهذا؟ فقال: ما أردت به معنى من المعاني، لكنه شيء عرض لي وجاء على لساني فيهذا الوقت، فأمر له بدنانير ومضى لوجهه وقد تنغض عليه سروره.


وكان من الأسباب أيضا......فاستجيب به.


قال علماء السير: لما انصرف الرشيد عن الحج سنة187 وقيل 188، أرسل الرشيد مسرورا لخادم ومعه جماعة من الجند ليلا وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار المغني وهويغني: فلا تبعد...... قال مسرور: فقلت له: يا أبا الفضل الذي جئت له هو والله ذاك، قد طرقك الأمر، أجب أمير المؤمنين، فوقع على رجلي يقبلها وقال: حتى أدخل فأوصي، فقلت: فأما الدخول فلا سبيل إليه وأما الوصية فاصنع ما شئت، فأوصى بما أراد وأعتق مما ليكه، وأتتني رسل الرشيد تستحثني، فمضيت إليه وأعلمته وهو في فراشه، فقال: ائتني برأسه، فأتيت جعفراً فأخبرته فقال: الله أكبر فراجعه، فعدت أراجعه، فلما سمع حسي قال: يا ماص بظر أمه، ائتني برأسه، فرجعت إليه وأخبرته فقال: وأمره، فرجعت فحذفني بعمود كان في يده وقال: نفيت من المهدي ان لم تأتني برأسه لأقتلنك، قال: فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه، وكان قتله ليلة السبت أول ليلة من صفر بالأنبار وهوابن سبع وثلاثين سنة، ثم أمر بنصب رأسه على الجسر وتقطيع يديه وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد حين خروجه إلى خراسان فقال: ينبغي أن يحرق هنا، فأحرق، ووجه الرشيد من ليلته إلى الرقة في قبض أمرائهم وما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم.


وحكي عن الأصمعي أنه قال: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى أرسل إلي ليلاً فراعني وأعجلني الرسل فزادوا في وجلي، فصرت إليه، فلما مثلت بين يديه أومأ إلي بالجلوس فجلست، ثم قال: لو أن جعفر...الخ.


ثم قال: إلحق بأهاك يا ابن قريب، فنهضت ولم أحر جوابا، وفكرت فلم أعرف لما كان منه معنى إلا أنه أراد أن يسمعني شعره فأحكيه.


ولما نكبوا قال الرقاشي:

 

الان استرحنا واسترحت ركابـنـا

 

وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي

فقل للمطايا قد أمنت من السـرى

 

وطي الفيافي فدفداً بعـد فـدفـد

وقل للمنايا قد ظفرت بجـعـفـر

 

ولن تظفري من بعده بـمـسـود

وقل للعطايا بعد فضل تعطـلـي

 

وقل للـرزاياكـل يوم تـجـددي

ودونك سيفا برمـكـياً مـهـنـداً

 

أصيب بسيف هاشمي مـهـنـد

وله أيضا في جعفر:

أما والله لولا خوف واش...الخ.

ووقع جعفر في قصة رجل شكا بعض عماله: قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت. ورأى رجلاً في الشمس فقال: أفي الشمس؟ قال: أطلب الظل، قال: لأولينك ولاية يطول فيها ظلك. وفضائله كثيرة رحمه الله تعالى.