ابن سينا

الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور؛ كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، وكان من العمال الكفاة، وتولى العمل بقرية من ضياع بخارى يقال لها خرميثنا من أمهات قراها، وولد الرئيس أبو علي وكذلك أخوه بها، واسم أمه ستارة وهي من قرية يقال لها أفسنة بالقرب من خرميثنا. ولما ولد أبو علي كان الطالع السرطان درجة شرف المشتري والقمر على شرف درجته والزهرة على درجة شرفها وسهم السعادة في تسع من السرطان وسهم الغيب في أول السرطان مع سهيل والشعرى اليمانية. ثم انتقلوا إلى بخارى، وتنقل الرئيس بعد ذلك في البلاد، واشتغل بالعلوم وحصل الفنون، ولما بلغ عشر سنين من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، ثم توجه نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي، فأنزله أبو الرئيس أبي علي عنده، فابتدأ أبو علي يقرأ عليه كتاب إيساغوجي واحكم عليه علم المنطق وإقليدس والمجسطي وفاقه أضعافاً كثيرة، حتى أوضح له منها رموزاً وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث ويناظر، ولما توجه الناتلي نحو خوارزم شاه مأمون بن محمد اشتغل أبو علي بتحصيل العلوم كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج تأدباً لا تكسباً، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثل، واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة. وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له.

وذكر عند الأمير نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان في مرض مرضه فأحضره وعالجه حتى برئن واتصل به وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلاً عن معرفته، فظفر أبو علي فيها يكتب من علم الأوائل وغيرها وحصل نخب فوائدها واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتنفرد أبو علي بما حصله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحراقها لينفرد بمعرفة ما حصله منها وينسبه إلى نفسه.

ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها، وتوفي أبوه وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة، وكان يتصرف هو ووالده في الأحوال ويتقلدان للسلطان الأعمال.

ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخارى إلى كركانج، وهي قصبة خوارزم، واختلف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد، وكان أبو علي على زي الفقهاء ويلبس الطيلسان، فقرروا له في كل شهر ما يقوم به، ثم انتقل إلى نسا وأبيورد وطوس وغيرها من البلاد، وكان يقصد حضرة الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير في أثناء هذه الحال، فلما أخذ قابوس وحبس في بعض القلاع حتى مات-كما سيأتي شرحه في ترجمته في حرف القاف من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى-ذهب أبو علي إلى دهستان ومرض بها مرضاً صعباً، وعاد إلى جرجان، وصنف بها الكتاب الأوسط-ولهذا يقال له "الأوسط الجرجاني"-واتصل به الفقيه أبو عبيد الجوزجاني، واسمه عبد الواحد، ثم انتقل إلى الري واتصل بالدولة، ثم إلى قزوين ثم إلى همذان، وتولى الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيراً، ثم مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان وبها علاء الدولة أبو جعفر ابن كاكويه، فأحسن إليه.

وكان أبو علي قوي المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع حتى أنهكته ملازمته وأضعفته ولم يكن يداوي مزاجه، وعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه وظهر له سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة، فحصل له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم منه، فازداد السحج به من حدة الكرفس فطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كبيراً من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء، فخافوا عاقبة أمره عند برئه؛ وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يمرض أسبوعاً ويصلح أسبوعاً، ثم قصد علاء الدولة همذان من أصبهان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق ووصل إلى همذان وقد ضعف جداً وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال: المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات في التاريخ الذي يأتي في آخر ترجمته إن شاء الله تعالى.

وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، وصنف كتاب "الشفاء" في الحكمة، و"النجاة" و"الإشارات" و"القانون" وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة: منها رسالة "حي بن يقظان" ورسالة "سلامان وابسال" ورسالة "الطير" وغيرها، وانتفع الناس يكتبه، وهو أحد فلاسفة المسلمين.

وله شعر، فمن ذلك قوله في النفس:

 

هبطت إليك من المحل الأرفـع

 

ورقاء ذات تعـزز وتـمـنـع

محجوبة عن كل مقـلة عـارف

 

وهي التي سفرت فلم تتبرقـف

وصلت على كره إليك وربـمـا

 

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

أنفت وما ألفت فلما واصـلـت

 

ألف مجاورة الخراب البلـقـع

وأظنها نسيت عهوداً بالحـمـى

 

ومنازلاً بفراقها لـم تـقـنـع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطـهـا

 

من ميم مركزها بذات الأجـرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبـحـت

 

بين المعالم والطلول الخـضـع

تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمـى

 

بمدامع تهمي ولمـا تـقـلـع

حتى إذا قرب المسير إلى الحمى

 

ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع

وغدت تغرد فوق ذروة شاهـق

 

والعلم يرفع كل من لـم يرفـع

وتعود عالـمة بـكـل خـفـية

 

في العالمين فخرقها لـم يرقـع

فهبوطها إذ كـان ضـربة لازم

 

لتكون سامعة لما لم تـسـمـع

فلأي شيء أهبطت من شاهـق

 

سام إلى قعر الحضيض الأوضع

إن كان أهبطها الإله لحـكـمـه

 

طويت عن الفطن اللبيب الأروع

إذ عاقها الشرك الكثيف فصدهـا

 

قفص عن الأوج الفسيح الأربع

فكأنها برق تألق بـالـحـمـى

 

ثم انطوى فكأنـه لـم يلـمـع

 

ومن المنسوب إليه أيضاً، ولا أتحققه، قوله:

 

اجعل غذاءك كـل يوم مـرة

 

واحذر طعاماً قل هضم طعام

واحفظ منبك ما استطعت فإنه

 

ماء الحياة يراق في الأرحام

 

وينسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستان في أول كتاب "نهاية الأقدام" وهما:

 

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

 

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كـف حـائر

 

على ذقن أو قارعاً سن نـادم

 

ومن شعره أيضاً:

 

هذب النفس بالعلوم لترقـى

 

فترى الكل فهي للكل بيت

إنما النفس كالزجاجة والعل

 

م سراج وحكمة الله زيت

فهي إن أشرقت فإنك حـي

 

وهي إن أظلمت فإنك ميت

 

فضائله كثيرة ومشهورة.


وكانت ولادته في سنة سبعين وثلثمائة في شهر صفر، وتوفي بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن بها. وحكى شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير في تاريخه الكبير أنه توفي بأصبهان، والأول أشهر، رحمه الله تعالى.

 

وكان الشيخ كما الدين بن يونس رحمه الله تعالى يقول: إن مخدومه سخط عليه واعتقله، ومات في السجن، وكان ينشد:

رأيت ابن سينا يعادي الرجـال

 

وفي السجن مات أخس الممات

فلم يشف ما نابه بـالـشـفـا

 

ولم ينج من موته بالـنـجـاة

وسينا: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها ألف ممدودة.