أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي بالولاء، العيني المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور؛ مولده بعين التمر، وهي بليدة بالحجاز قرب المدينة، وقيل: إنها من أعمال سقي الفرات، وقال ياقوت الحموي في كتابه المشترك إنها قرب الأنبار، والله أعلم.
ونشأ بالكوفة وسكن بغداد، وكان يبيع الجرار فقيل له: الجرار، واشتهر بمحبة عتبة جارية الإمام المهدي، وأكثر نسيبه فيها فمن ذلك قوله:
أعلمت عتـبة أنـنـي |
|
منها على شرفٍ مطل |
وشكوت ما ألقى إلـي |
|
ها والمدامع تستهـل |
حتى إذا برمت بـمـا |
|
أشكو كما يشكو الأقل |
قالت: فأي النـاس يع |
|
لم ماتقول؟ فقلت: كل |
وكتب مرة إلى المهدي وعرض بطلبها منه:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة |
|
ألله والقائم المهدي يكفيهـا |
إني لأيأس منها ثم يطمعني |
|
فيها احتقارك للدنيا وما فيها |
وقال أبو العباس المبرد في كتاب الكامل: إن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين في النيروز والمهرجان، فأهدى له في أحدهما برنية ضخمة فيها ثوب ناعم مطيب قد كتب على حواشيه هذين البيتين المقدم ذكرهما، فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت، وقالت: يا أمير المؤمنين، حرمتي وخدمتي، أتدفعني إلى رجل قبيح المنظر بائع جرار ومتكسب بالسعر؟ فأعفاها وقال: املأوا له البرنية مالاً، فقال للكتاب: أمر لي بدنانير، وقالوا: ما ندفع إليك ذاك، ولكن إن شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أراد، فاختلف في ذلك حولاً، فقالت عتبة: لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حول في التمييز بين الدراهيم والدنانير، وقد أعض عن ذكري صفحا.
ومن مديحه:
إني أمنت من الزمان وصرفه |
|
لما علقت من المير حـبـالا |
لويستطيع الناس من إجلالـه |
|
تخذوا له حر الخدود نعـالا |
إن المطايا تسشتكيك لأنـهـا |
|
قطعت إليك سبابـاً ورمـالا |
فإذا وردن بنا وردن خفائفـاً |
|
وغذا صدرن بنا صدرن ثقالا |
وهذه الأبيات قالها في عمر بن العلاء، فأعطاه سبعين ألفا، وخلع عليه حتى لا يقدر أن يوم، فغار الشعراء من ذلك، فجمعهم ثم قال: يامعشر الشعراء عجباً لكم! ما أشد حسدكم بعضكم بعضاً! أحدكم يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتا، فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتانا أبو العتاهية فشب بابيات يسيرة، ثم قال، وانشد الأبيات المذكورة: فما لكم منه تغارون؟ وكان أبو العتاهية لما مدحه بهذه الأبيات تأخر عنه بره قليلاً فكتب إليه بستبطئه:
أصابت علينا جودك العين ياعمر |
|
فنحن لها نبغي التمائم والنشـر |
سنرقبك بالأشعار حتى تملـهـا |
|
وإن لم تفق منها رقيناك بالسور |
قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حساً فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، فقال: فأمره المهدي أن ينشد، فأنشد:
ألا ما لسيدتي مالها |
|
أدلت فأحمل إدلالها |
قال: فنخسني بشار بمرفقه وقال: ويحك! أرأيت أجسر من هذا؟ ينشد مثل هذا الشعر في مثل هذا الموضع، حتى بلغ إلى قوله:
أتته الخلافة مـنـقـادةً |
|
إليه تـجـرر أذيالـهـا |
فلم تك تصـلـح إلا لـه |
|
ولم يك يصلح إلا لـهـا |
ولو رامها أحـد غـيره |
|
لزلزلت الأرض زلزالها |
ولو لم تطعه بنات القلوب |
|
لما قبل الله اعمـالـهـا |
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن عرشه؟ قال أشجع: فوالله ما انصرف أحد عن هذا المجلس بجائزة غير أبي العتاهية.
وله في الزهد أشعار كثيرة، وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس وتلك الطائفة، وشعره كثير.
وكانت ولادته في سنة ثلاثين ومائة، وتوفي يوم الاثنين لثمان أو ثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة، وقيل: ثلاث عشرة ومائتين ببغداد، وقبره على نهر عيسى قبالة قنطرة الزياتين، رحمه الله تعالى.
ولما حضرته الوفاة قال: أشتهي أن يجيء مخارق المغني ويغني عند رأسي، والبيتان له من جملة أبيات:
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتـي |
|
فإن عـزاء الـبـاكـيات قـلــيل |
سيعرض عن ذكري وتنسى مـودتـي |
|
ويحدث بعدي لـلـخـلـيل خـلـيل |
وأوصى أن يكتب على قبه هذا ابيت: |
|
|
إن عيشاً يكون آخره المو |
|
ت لعيش معـجـل الـتـنـغـيص |
ويحكى أنه لقي يوماً أبا نواس فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر؟ فقال له: البيت والبيتين، فقال أبوالعتاهية: لكنني أعمل المائة والمائتين في اليوم، فقال أبو نواس لأنك تعمل مثل قولك:
ياعتب مالي ولك |
|
ياليتني لم أرك |
ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه، وأنا أعمل مثل قولي:
من كف ذات حر في زي ذي ذكر |
|
لها محبـان: لـوطـي، وزنـاء |
ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر.
ومن لطيف شعره قوله:
ولقد صبوت إليك حتى صار من فرط التصابي |
|
|
يجد الجليس إذا دنا |
|
ريح الـتـصـابـي فــي ثـــيابـــي |
وحكاياته كثيرة.
ومن شعره في عتبة جارية المهدي:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي |
|
فيسروا الأكفان من عاجل |
ولا تلوموا في اتباع الهوى |
|
فإنني في شغل شـاغـل |
ويقول فيها:
عيني على عتبة منـهـلة |
|
بدمعها المنكب الـسـائل |
يا من رأى قبلي قتيلاً بكى |
|
من شدة الوجد على القاتل |
بسطت كفي نحوكم سائلاً |
|
ماذا تردون على السـائل |
إن لم تنيلوه، فقولـوا لـه |
|
قولاً جميلاً بدل الـنـائل |
أو كنتم العام على عسـرة |
|
منه فمنوه إلى القـابـل |
وحكى صاعد اللغوي في كتاب الفصوص: أن أبا العتاهية زار يوماً بشار بن برد، فقال له أبو العتاهية: إني لأستحسن قولك اعتذاراً من البكاء، إذ تقول:
كم من صديق لي أسا |
|
رقه البكاء من الحياء |
وإذا تفطـن لامـنـي |
|
فأقول ما بي من بكاء |
لكن ذهبـت لأرتـدي |
|
فطرفت عيني بالرداء |
فقال له: أيها الشيخ، ما غرفته إلا من بحرك، ولا نحته إلا من قدحك، وأنت السابق حيث تقول:
وقالوا قد بكيت فقلـت كـلا |
|
وهل يبكي من الجزع الجليد |
ولكن قد أصاب سواد عينـي |
|
عويد قذى له طرف حـديد |
فقالوا ما لد معهمـا سـواء |
|
أكلتا ملتيك أصـاب عـود |
قال صاعد: وتقدمهما إلى هذا المعنى الحطيئة حيث يقول:
إذا ما العين فاض الدمع منها |
|
أقول بها قذى وهو البكـاء |
وكان أبو العتاهية ترك قول الشعر، فحكى قال: لما امتنعت من قوله أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فلما دخلته دهشت ورأيت منظراً هالني، فطلبت موضعاً آوي فيه، فإذا أنا بكهل حسن البزة والوجه عليه سيما الخير فقصدته، وجلست من غير سلام عليه لما أنا فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكثت كذلك ملياً، وإذا الرجل ينشد:
تعودت مس الضر حتى ألفـتـه |
|
وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر |
وصيرني يأسي من الناس واثـقـاً |
|
بحسن صنيع الله من حيث لاأدري |
قال: فاستحسنت البيتين وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فقلت له: تفضل - أعزك الله - علي بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل، ويحك ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك، دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم، حتى سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله تعالى فيك خيراً ولا أدباً ولا معاشاً غيره، طفقت تستنشدني مبتدئاً كأن بيننا أنساً وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك، ولا اعتذرت عما بدا من إساءة أدبك، فقلت: اعذرني متفضلاً، فدون ما أنا فيه يدهش، قال: وفيم أنت؟ تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم وسببك إليهم، ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي، فأطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمي فيه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك، وها أنت ترى صبري واحتسابي، فقلت: يكفيك الله عز وجل وخجلت منه، فقال: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين، ثم أعادهما علي مراراً حتى حفظتهما، ثم دعي به وبي. فقلت له: من أنت أعزك الله عز وجل؟ قال: أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد، فأدخلنا على المهدي، فلما وقفنا بين يديه قال الرجل: أين عيسى بن زيد؟ قال: وما يدريني أين عيسى ابن زيد؟ تطلبته فهرب منك في البلاد وحبستني، فمن أين أقف على خبره؟ قال له: متى كان متوارياً؟ وأين آخر عهدك به؟ وعند من لقيته؟ قال: ما لقيته منذ توارى، ولا عرفت له خبراً! قال: والله لتدلن عليه، او لأضربن عنقك الساعة، فقال: اصنع ما بدا لك، فوالله ما ادلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقى الله تعالى ورسوله عليه السلام بدمه، ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه، قال: اضربوا عنقه، فأمر به فضربت عنقه، ثم دعا بي فقال: أتقول الشعر، أو أحقك به؟ قلت: بل أقول، قال: أطلقوه، فأطلقت.
وقد روى القاضي أبو علي التنوخي في البيتين المذكورين زيادة بيت ثالث، وهو:
إذا أنا لم أقنع من الدهـر بـالـذي |
|
تكرهت من طال عتبي على الدهر |
وحكايات ابي العتاهية كثيرة.
والعنزي - بفتح العين المهملة والنون وبعدها زاي - هذه النسبة إلى عنزة ابن أسد بن ربيعة والعيني - بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - هذه النسبة إلى عين التمر البلدة المذكورة في الأول.