الجنيد الصوفي

أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري، الزاهد المشهور؛ أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه العراق، وكان شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مدون، وتفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي رضي اله عنهما، وقيل: بل كان فقيها على مذهب سفيان الثوري رضي الله عنه. وصحب خاله السري السقطي والحارث المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ رضي الله عنهم. وصحبه أبو العباس ابن سريج الفقيه الشافعي، وكان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام أعجب الحاضرين فيقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟ هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد، وسئل الجنيد عن العارف فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة. وحضر الجنيد موضعا فيه قوم يتواجدون على سماع يسمعونه وهو مطرق، فقيل له: أبا لاقاسم، مانراك تتحرك! فقال وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، صنع الله ورئي يوماً وفي يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه.

وقال الجنيد: قال لي خالي سري السقطي: تكلم على الناس، وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاقي ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم على الناس، فانتبهت، وأتيت باب السري قبل أن أصبح، فدققت الباب فقال لي: لم تصدقنا حتى قيل لك، فقعدت في غد الناس بالجامع وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس، فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال: أيها الشيخ، مامعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه بنور الله؟ فأطرقت ثم رفعت رأسي وقلت: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام.

وقال الشيخ الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وماهي؟ قال: مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها فسمعتها تقول:

 

إذا فعلت أهى الهجر لي حلل البلى

 

تقولين لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت هذا القلب أرحقه الهوى

 

تقولي بنيران الهوى شرف القلب

وإن قلت ما أذنبت قلت مجـبـية

 

حياتك ذنـب لايقـاس بـه ذنـب

فصعقت وصحت، فبينما أنا كذلك إذا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا ياسيدي؟ فقلت له: مما سمعت، فقال: أشهدك أنها هبة من يلك، فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى، ثم زوجتها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة.

وآثاره كثيرة مشهورة.

وتوفي يوم السبت - وكان نيروز الخليفة - سنة سبع وتسعين ومائتين، وقيل: سنة ثمان وتسعين آخر ساعة من نهار الجمعة ببغداد، ودفن يوم السبت بالشونيزية عند خاله سري السقطي، رضي الله عنهما. وكان عند موته - رحمه الله تعالى - قد ختم القرآن الكريم ثم ابتدأ في القرة فقرأ سبعين آية، ثم مات. قال محمد بن إبراهيم: رأيت الجنيد في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار وإنما قيل له الخزار لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري لأن أباه كان قواريرياً.

والخزار: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف زاي ثانية.

والقواريري: بفتح القاف والواو وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء ثانية.

ونهاوند - بفتح النون وقال السمعاني: بضم النونوفتح الهاء وبعد الألف واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة - وهي مدينة من بلاد الجبل، قيل: إن نوحا عليه السلام بناها، وكان اسمها نوح أوند، ومعنى أوند بنى فعربوها فقالوا: نهاوند.

والشونيزية - بضم الشين المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها زاي - وهي مقبرة مشهورة ببغداد بها قبور جماعة من المشايخ، رضي الله عنهم، بالجانب الغربي.