المنصور العبيدي

أبو الطاهر إسماعيل الملقب المنصور بن القائم بن المهدي صاحب إفريقية، وستأتي بقية نسبة عند ذكر جده المهدي في حرف العين إن شاء الله تعالى. وقد تقدم ذكر المستعلي، وهو من أحفاده.

بويع المنصور يوم وفاة أبيه القائم - على ما سيأتي في ترجمته في حرف الميم -؛ وكان بليغاً فصيحاً يرتجل الخطب، وذكر أبو جعفر أحمد بن محمد المروروذي قال: خرجت مع المنصور يوم هزم أبا يزيد، فسايرته وبيده رمحان، فسقط أحدهما مرارا فمسحته وناولته إياه، وتفاءلت له، فأنشدته:

فألفت عصاها واستقر بها النوى

 

كما قر عيناً بالإياب المسافـر

فقال: ألا قلت ماهو خير من هذا وأصدق وأوحينا إلى موسى أن ألقى عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين فقلت: يا مولانا أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت ما عندك من العلم.

قلت: ومن أحسن ما جاء في ذلك ما ذكره التيمي في سيرة الحجاج بن يوسف قال: أمر عبد الملك بن مروان أن يعمل باب بيت المقدس ويكتب عليه اسمه، وسأله الحجاج أن يعمل له باباً، فأذن له، فاتفق أن صاعقة وقعت فاحترق منها باب عبد الملك وبقي باب الحجاج، فعظم ذلك على عبد الملك، فكتب الحجاج إليه يلغني أن ناراً نزلت من السماء فأحرقت باب أمير المؤمنين ولم تحرق باب الحجاج، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يقبل من الآخر فسري عنه لما وقف عليه.

وكان أبوه قد ولاه محاربة أبي يزيد الخارج عليه، وكان هذا أبو يزيد مخلد ابن كيداد رجلا من الإباضية يظهر التزهد وأنه إنما قام غضباً لله تعالى، ولا يركب غير حمار، ولا يلبس إلا الصوف، وله مع القائم والد المنصور وقائع كثيرة، وملك جميع مدن القيروان، ولم يبق للقائم إلا المهدية، فأناخ عليها أبو يزيد وحاصرها فهلك القائم في الحصار، ثم تولى المنصور فاستمر على محاربته واخفى موت أبيه، وصابر الحصار حتى رجع أبو يزيد عن المهدية، ونزل على سوسة وحاصرها، فخرج المنصور من المهدية ولقيه على سوسة فهزمه، ووالى عليه الهزائم إلى أن سره يوم الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ست وثلاثين وثلثمائة، فمات بعد أسره بأربعة أيام من جراح كانت به، فأمر بسلخه وحشا جلده قطناً وصلبه وبنى مدينته في موضع الوقعة وسماها المنصورية، واستوطنها.

وكان المنصور شجاعاً رابط الجأش، بليغا يرتجل الخطبة؛ وخرج في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من المنصورية إلى مدينة جلولاء ليتنزه بها ومعه حظيته قضيب، وكان مغرماً بها، فأمطر الله سبحانه وتعالى عليهم بردا كثيراً وسلط عليهم ريحا عظيمة، فخرج منها إلى المنصورية، فاشتد عليه البرد فأوهن جسمه، ومات أكثر من معه، ووصل إلى المنصورية فاعتل بها فمات يوم الجمعة آخر شوال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، وكان سبب علته أنه لما وصل المنصورية أراد أن يدخل الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، فلم يقبل منه، ودخل الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالجه والسهر باق على حاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض الخدم: أما بالقيروان طبيب يخلصني من هذا الداء؟ فقالوا له ههنا شاب قد نشأ يقال له إبراهيم، فأمر بإحضاره، فحضر فعرفه حاله وشكا إليه مابه، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار وكلفه شمها فلما أدمن شمها نام، وخرج إبراهيم مسروراً بما فعل، وجاء إسحاق فطلب الدخول عليه فقالوا له: هو نائم، فقال: إن كان قد صنع له شيء ينام منه فقد مات، فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً، فأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ماله ذنب، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه، وذلك أني كنت أعالجه وأنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات.

 ودفن بالمهدية، ومولده بالقيروان في سنة اثنتين، وقيل: إحدى وثلثمائة، وكانت مدة لمكه سبع سنين وستة أيام، رحمه الله تعالى.

وإفريقية - بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر القاف وبعدها ياء معجمة باثنتين من تحتها، وهي مفتوحة وبعدها هاء - إقليم عظيم من بلاد المغرب، فتح في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكرسي مملكته القيروان، واليوم كرسيها تونس.