الطغرائي

السيد فخر الكتاب أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الملقب مؤيد الدين الأصبهاني المنشئ المعروف بالطغرائي؛ كان غزير الفضل لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر.

ذكره أبو سعد ابن السمعاني في نسبة المنشئ من كتاب "الأنساب"، وأثنى عليه، وأورد قطعة من شعره في صفة الشمعة، وذكر أنه قتل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.

والطغرائي المذكور له ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم، وكان عملها ببغداد في سنة خمس وخمسمائة يصف حاله ويشكو زمانه، وهي التي أولها:

أصالة الرأي صانتني عـن الـخـطـل

 

وحلية الفضل زانتني لـدى الـعـطـل

مجـدي أخـيراً ومـجـدي أولاً شـرع

 

والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فيم الإقـامة بـالـزوراء لا سـكـنـي

 

بها ولا ناقتـي فـيهـا ولا جـمـلـي

ناء عن الأهل صفر الكـف مـنـفـرد

 

كالسيف عري متنـاه عـن الـخـلـل

فلا صديق إليه مـشـتـكـى حـزنـي

 

ولا أنيس إلـيه مـنـتـهـى جـذلـي

طال اغترابي حتـى حـن راحـلـتـي

 

ورحلها وقـرى الـعـسـالة الـذبـل

وضج من لغب نـضـوي وعـج لـمـا

 

يلقى ركابي ولح الركب فـي عـذلـي

أريد بسـطة كـف أسـتـعـين بـهـا

 

على قضاء حقوق لـلـعـلا قـبـلـي

والدهر يعكس آمـالـي ويقـنـعـنـي

 

من الغنيمة بعـد الـكـد بـالـقـفـل

وذي شطاط كصدر الرمح مـعـتـقـل

 

بمـثـلـه غـير هـياب ولا وكـــل

حلو الفكاهة مر الـجـد قـد مـزجـت

 

بشـدة الـبـأس مـنـه رقة الـغـزل

طردت سرح الكرى عن ورد مقـلـتـه

 

والليل أغرى سوام النـوم بـالـمـقـل

والركب ميل على اكـوار مـن طـرب

 

صاح وآخر من خمر الـهـوى ثـمـل

فقلت أدعوك للجلـى لـتـنـصـرنـي

 

وأنت تخذلني في الـحـادث الـجـلـل

تنام عينـي وعـين الـنـجـم سـاهـرة

 

وتستحيل وصـبـغ الـلـيل لـم يحـل

فهل تعين علـى غـي هـمـمـت بـه

 

والغي يزجر أحـيانـاً عـن الـفـشـل

إني أريد طـروق الـحـي مـن إضـم

 

وقد حـمـاه رمـاة مـن بـين ثـعـل

يحمون بالبيض والسـمـر الـلـدان بـه

 

سود الغدائر حمر الحـلـي والـحـلـل

فسر بنا في ذمام اللـيل مـعـتـسـفـاً

 

فنفحة الطيب تهـدينـا إلـى الـحـلـل

فالحب حـيث الـعـدا والأسـد رابـضة

 

حول الكناس لهـا غـاب مـن الأسـل

نؤم نـاشـئة بـالـجـزع قـد سـقـيت

 

نصالها بمـياه الـغـنـج والـكـحـل

قد زاد طيب أحـاديث الـكـرام بـهـا

 

ما بالكرائم مـن جـبـن ومـن بـخـل

تبيت نار الهوى مـنـهـن فـي كـبـد

 

حرى ونار القرى منهم عـلـى قـلـل

يقتلن أنضاء حـب لا حـراك بـهـا

 

وينحـرون كـرام الـخـيل والإبـل

يشفى لديغ العوالي فـي بـيوتـهـم

 

بنهلة من غدير الخمـر والـعـسـل

لعل إلـمـامة بـالـجـزع ثـانـية

 

يدب منها نسيم البرء فـي عـلـلـي

لا أكره الطعنة النجلاء قد شفـعـت

 

برشقة من نبال الأعـين الـنـجـل

ولا أهاب الصفاح البيض تسعـدنـي

 

باللمح من خلل الأستـار والـكـلـل

ولا أخـل بـغـزلان تـغـازلـنـي

 

ول دهتني أسود الغـيل بـالـغـيل

حب السلامة يثني هـم صـاحـبـه

 

عن المعالي ويغري المرء بالكـسـل

فإن جنحت إليه فـاتـخـذ نـفـقـاً

 

في الأرض أو سلماً في الجو واعتزل

ودع غمار العلا للمقـدمـين عـلـى

 

ركوبها واقتنع منـهـن بـالـبـلـل

رضى الذليل بخفص العيش مسـكـنة

 

والعز تحت رسـيم الأينـق الـذلـل

فادرأ بها في نحور الـبـيد حـافـلة

 

معارضات مثاني اللجـم بـالـجـدل

إن العلا حدثتـنـي وهـي صـادقة

 

فيما تحدث أن العز فـي الـنـقـل

لو أن في شرف المأوى بلوغ مـنـى

 

لم تبرح الشمس يوماً دارة الحـمـل

أهبت بالحظ لو ناديت مسـتـمـعـاً

 

والحظ عني بالجهـال فـي شـغـل

لعله إن بدا فضـلـي ونـقـصـهـم

 

لعينه نام عنـهـم أو تـنـبـه لـي

أعلل النفـس بـالآمـال أرقـبـهـا

 

ما أضيق العيش لولا فسـحة الأمـل

لم أرض بالعـيش والأيام مـقـبـلة

 

فكيف أرضى وقد ولت على عجـل

غالى بنفسي عرفاني بـقـيمـتـهـا

 

فصنتها عن رخيص القدر مبـتـذل

وعادة النصل أن يزهى بـجـوهـره

 

وليس يعمـل إلا فـي يدي بـطـل

ما كنت أوثر أن يمتـد بـي زمـنـي

 

حتى أرى دولة الأوغاد والـسـفـل

تقدمتنـي أنـاس كـان شـوطـهـم

 

وراء خطوي إذ أمشي على مـهـل

هذا جزاء امـرئ أقـرانـه درجـوا

 

من قبله فتمـنـى فـسـحة الأجـل

وإن علاني من دوني فـلا عـجـب

 

لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحـل

فاصبر لها غير محتال ولا ضـجـر

 

في حادث الدهر ما يغني عن الحـيل

أعدى عدوك أدنى مـن وثـقـت بـه

 

فحاذر الناس واصحبهم علـى دخـل

وحسن ظـنـك بـالأيام مـعـجـزة

 

فظن شراً وكن منها عـلـى وجـل

غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجـت

 

مسافة الخلف بين القول الـعـمـل

وشان صدقك عند النـاس كـذبـهـم

 

وهل يطابق معـوج بـمـعـتـدل

إن كان ينجع شـيء فـي ثـيابـهـم

 

على العهود فسبق السيف لـلـعـذل

يا وراداً سـؤر عـيش كـلـه كـدر

 

أنفقت صفـوك فـي أيامـك الأول

فيم اقتحامك لج البـحـر تـركـبـه

 

وأنت يكفيك منـه مـصة الـوشـل

ملك القناعة لا يخـشـى عـلـيه ولا

 

يحتاج فيه إلى الأنصـار والـحـول

ترجو البقاء بـدار لا ثـبـات لـهـا

 

فهل سمعت بظل غير مـنـتـقـل

ويا خبيراً على الأسرار مـطـلـعـاً

 

أصمت ففي الصمت منجاة من الزلل

قد رشحوك لأمر لو فـطـنـت لـه

 

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهـمـل

 

ومن رقيق شعره قوله:

 

يا قلب مالك والهوى من بعد ما

 

طاب السلو وأقصر العشـاق

أو ما بدا لك في الإفاقة والألى

 

نازعتهم كأس الغرام أفـاقـوا

مرض النسيم وصح والداء الذي

 

تشكوه لا يرجى لـه إفـراق

وهذا خفوق البرق والقلب الذي

 

تطوى عليه أضالعي خـفـاق

 

وله أيضاً:

 

أجما البكا يا مقلتي فـإنـنـا

 

على موعد للبين لا شك واقع

إذا جمع العشاق موعدهم غداً

 

فواخجلتا إن لم تعني مدامعي

ومن شعره:  

ولا غرو إن أهديت من فيض بره

 

إليه قليلاً لـيس يعـتـده نـزرا

فإني رأيت الغيم يحـمـل مـاءه

 

من البحر غمراً ثم يهدي له قطرا

 

ومن شعره:

 

لا تحقرن الرأي وهو مـوافـق

 

حكم الصواب وإن بدا من ناقص

فالدر وهو أجل شيء يقـتـنـى

 

ما حط رتبته هوان الـغـائص

 

وله أيضاً:

 

أخاك أخاك فهو أجل ذخر

 

إذا نابتك نايبة الـزمـان

وإن رابت إساءته فهبهـا

 

لما فيه من الشيم الحسان

تريد مهذباً لا غـش فـيه

 

وهل عود يفوح بلا دخان

 

ومن شعره:

 

ما فلان: إلا كجـيفة مـيت

 

والضرورات أحوجتنا إليه

فمن اضطر غير باغ ولا عا

 

د فلا إثم في الكتاب علـيه

 

وله من أبيات:

 

لا غرو إن حزت المروءة والتقى

 

والدين والدنيا لـم تـتـصـدع

إن النواظر والقلوب صـغـيرة

 

تحوي الكبيرة وليس بالمستبـدع

 

وله:

 

جامل أخاك إذا استربت بوده

 

وانظر به عقب الزمان يعاد

فإن استمر على الفساد فخله

 

فالعضو يقطع للفساد الزائد

 

وذكره أبو المعالي الحظيري في كتاب "زينة الدهر" وذكر له مقاطيع، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في "تاريخ إربل" وقال: إنه ولي الوزارة بمدينة إربل مدة، وذكر العماد الكاتب في كتاب "نصرة الفترة وعصرة الفطرة"-وهو تاريخ الدولة السلجوقية-أن الطغرائي المذكور كان ينعت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وأنه لما جرى المصاف بينه وبين أخيه السلطان محمود بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود، فأول من أخذ الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأخبر به وزير محمود، وهو الكمال نظام الدين أو طالب علي بن أحمد بن حرب السميرمي، فقال الشهاب أسعد-وكان طغرائياً في ذلك الوقت نيابة عن النصير الكاتب-: هذا الرجل ملحد، يعني الأستاذ، فقال وزير محمود: من يكن ملحداً يقتل، فقتل ظلماً.

 

وقد كانوا خافوا منه، ولا قبل عليه لفضله، فاعتدوا قتله بهذه الحجة، وكانت هذه الواقعة سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقيل إنه قتل سنة أربع عشرة، وقيل ثماني عشرة، وقد جاوز ستين سنة، وفي شعره ما يدل على أنه بلغ سبعاً وخمسين سنة لأنه قال وقد جاءه مولود:

 

هذا الصغير الذي وافى على كبري

 

اقر عيني ولكن زاد في فكـري

سبع وخمسون لو مرت على حجر

 

لبان تأثيرها في صفحة الحـجـر

والله تعالى أعلم بما عاش بعد ذلك، رحمه الله تعالى.

وقتل الكمال السميرمي الوزير المذكور يوم الثلاثاء سلخ صفر سنة ست عشرة وخمسمائة في السوق ببغداد عند المدرسة النظامية، وقيل: قتله عبد أسود كان للطغرائي المذكور، لأنه قتل أستاذه.

والطغرائي-بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وفتح الراء وبعدها الف مقصورة-هذه النسبة إلى من يكتب الطغري، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ، ومضمونها نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه، وهي لفظة أعجمية.

والسميرمي-بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ثم ميم-هذه النسبة إلى سميرم، وهي بلدة بين أصبهان وشيراز، وهي آخر حدود أصبهان.