أبو الطيب المتنبي

أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل: هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار، والله أعلم.

هو من أهل الكوفة، وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من الكثيرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة، قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال علي أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد. وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة. وحجلى: جمع حجل، وهو: الطائر الذي يسمى القبج.

والظربي: جمع ظربان - على مثال قطران - وهي دويبة منتنة الرائحة.

وأما شعره فهو في النهاية، ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، لكن الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله كان يروي له بيتين لايوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به، فأحببت ذكرهما لغرابتهما، وهما:

أبيعين مفتقر إليك نظرتنـي

 

فأهنتني وقد فتني من حالق

لست الملوم أنا الملوم لأنني

 

أنزلت آمالي بغير الخالـق

 

ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علته، فلما أبل أنقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلاً، وقطعتني مبلاً، فإن رأيت أن لاتحبب العلة إلي، ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله تعالى.


والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على ابي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد بن محمد النامي الشاعر الآتي ذكره عقيب هذا: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ماسبق إليهما، أحدهما قوله:

 

رماني الدهر بالأرزاء حتـى

 

فؤادي في غشاء من نـبـال

فصرت إذا أصابتني سـهـام

 

تكسرت النصال على النصال

والآخر قوله:

في جحفل ستر العيون غباره

 

فكأنما يبـصـرن بـالآذان

 

واعتنى العلماء بديوانهفشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره، ولاشك أنه كان رجلاً مسعوداً، ورزق في شعره السعادة التامة.


وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك، وهذا أصح، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر.


ثم التحق بالمير سيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلثمائة، ومدح كافوراً الإخشيدي وأنوجور ابن الإخشيد، وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسط سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلثمائة، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: ياقوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور؟ فحسبكم.


قال أبو الفتح ابن جني النحوي: كنت قرأت ديوان أبي الطيب المتنبي عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:

 

أغالب فيك الشوق والشـوق أغـلـب

 

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

حتى بلغت إلى قوله:

 

ألا ليت شعري هل أقول قصيدة

 

ولا اشتكي فيها ولاأتـعـتـب

وبي ما يذود الشعر عني أقله

 

ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب

فقلت له: يعز عليي، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه:

 

أخا الجود، أعط الناس ما أنت مالك

 

ولاتعطين النـاس مـا أنـاقـائل

فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبيره وقلة تمييزه.


وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، فوقعبين المتنبي وبين ابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخر إلى مصر وامتدح كافوراً.


ثم رحل عنه وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، فأجزل جائزته، ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من اصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل حيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهمامسافة ميلين.


وذكر ابن رشيق في كتاب العمدة في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة قال له غلامه: لايتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل:

 

فالخيل والليل والبيداء تـعـرفـنـي

 

والحرب والضرب والقرطاس والقلم

 

فكر راجعاً حتى قتل، وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء ليست بقين - وقيل: لثلاث بقين، وقيل: لليلتين بقيتا - من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقيل: إن قتله كان يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة.


ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة - بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء - وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب - فيما قيل - في ثلثمائة من ولده وولد ولده، فإذا قيل له: من هؤلاء؟ قال: عشيرتي، مخافة العين عليهم.


ويقال: إن أبا المتنبي كان سقاء بالكوفة، ثم انتقل إلى الشام بولده، ونشأ ولده بالشام، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي حيث قال:

أي فضل لشاعر يطلب الفض

 

ل من الناس بكرة وعـشـيا

عاش حيناً يبيع في الكوفة الما

 

ء، وحيناً يبيع ماء المـحـيا

وسيأتي في حرف الحاء نظير هذا المعنى لابن المعذل في أبي تمام حبيببن أوس الشاعر المشهور.


ولما قتل المتنبي رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله:

لارعى الله سرب هذا الزمان

 

إذ دهانا في مثل ذاك اللسان

مارأى الناس ثاني المتنـبـي

 

أي ثان يرى لبكر الـزمـان

كان من نفسه الكبيرة فيجـي

 

ش وفي كبرياء ذي سلطـان

هو في شعره نبي، ولـكـن

 

ظهرت معجزاته في المعاني

والطبسي - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها سبن مهملة - هذه النسبة إلى مدينة في البرية بين نيسابور وإصبهان وكرمان يقال لها طبس.


ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وإشبيلية أنشد يوماً في مجلسه بيت المتنبي، وهو من جملة قصيدته المشهورة:

 

إذا ظفرت منك العيون بنظـرة

 

أثاب بها معيي المطي ورازمه

 

وجعل يردده استحساناً له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً:

 

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما

 

تجيد العطايا واللها تفتح اللها

تنبأ عجبا بالقريض ولـو درى

 

بأنك تروي شعره لتـألـهـا

 

وذكر الإفليلي أن المتنبي أنشد سيف الدولة بن حمدان في الميدان قصيدته التي أولها:

 

لكل امرىء من دهره مـا تـعـودا

 

وعادات سيف الدولة الطعن في العدا

 

 فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها، فأنشدها قاعداً، فقال بعض الحاضرين - يريد أن يكيد أبا الطيب - لو أنشدها قائماً لأسمع، فإن أكثر الناس لايسمعون، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها:

 

لكل امرىء من دهره ماتعودا

وهذا من مستحسن الأجولة، وبالجملة فسمو نفسه وعلو همته وأخباره وما جرياته كثيرة، والاختصار أولى.

واسم ولده محسد: بضم الميم وفتح الحاء المهملة والسين المهملة المشددة وبعدها دال مهملة.