حفص بن غياث القاضي

أبو عمرو بن غياث بن طلق بن معاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة ابن عامر بن ربيعة بن جشم بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج النخعي الكوفي؛ سمح عبد الله بن عمر العمري وهشام بن عمرو وإسماعيل بن أبي خالد وأبا إسحاق الشيباني والأعمش وخلقاً سواهم؛ روى عنه ابنه عمر وأبو نعيم الفضل بن دكين وعفان بن مسلمة وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعامة الكوفيين. ولي القضاء ببغداد وحدت بها ثم عزل وولي قضاء الكوفة؛ قال حميد بن الربيع: لما جيء بعبد الله بن إدريس وحفص بن غياث ووكيع ابن الجراح إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد ليوليهم القضاء دخلوا عليه، فأما ابن إدريس فقال: السلام عليكم، وطرح نفسه كأنه مفلوج، فقال هارون: خذوا بيد الشيخ، لا فضل في هذا؛ وأما وكيع فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أتصرف بها منذ سنة، ووضع إصبعه على عينه، وعنى إصبعه، فأعفاه؛ وأما حفص بن غياث فقال: لولا غلبة الدين والعيال ما وليت.

وكان حفص المذكور لما قربوا من بغداد طرى خضابه فالتفت ابن إدريس إلى وكيع فقال: أما هذا فقد قبل.

وقال حفص وهو قاض على الشرقية لرجل يسأل عن مسائل القضاء: لعلك تريد أن تكون قاضياً؟ لأن يدخل الرجل إصبعه في عينه فيقلعها فيرمي بها خير له من أن يكون قاضياً.

وكان حفص يقول: لو رأيت أني اسر بما أنا فيه هلكت.

قال عمرو بن حفص بن غياث: لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه، فبكيت عند رأسه فأفاق فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لفراقك ولما دخلت فيه من هذا الأمر، يعني القضاء، فقال لابنه: يا بني ما حللت سراويلي على حرام قط ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم بينهما.

وقال الخطيب: كان حفص بن غياث المذكور جالساً في الشرقية للقضاء، فأرسلإليه الخليفة يدعوه، فقال لرسوله: حتى أفرغ من أمر الخصوم، إذ كنت أجيراً لهم، وأصير إلى أمير ا لمؤمنين؛ ولم يقم حتى تفرق الخصوم.

وقال غنام بن حفص: مرض أبي خمسة عشر يوماً، فدفع إلي مائة درهم وقال: امض بها إلى العامل وقل له هذه رزق خمسة عشر يوماً لم أحكم فيها بين المسلمين لاحظ لي فيها.

وقال: باع رجل من أهل خراسان جمالاً بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر فمطله ثمنها وحبسه عن سفره، وطال ذلك على الرجل، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره فقال له: اذهب إليه فقل له: أعطني ألف درهم وأحيل عليك ببقية المال وأخرج إلى خراسان، فإذا فعلت هذا فأخبرني حتى أشير عليك؛ ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم فرجع إلى الرجل فأخبره فقال: عد إليه فقل له: إذا ركبت غداً فطريقك على القاضي تحضر، وأوكل رجلاً بالقبض على المال واخرج فإذا جلس إلى القاضي فادع عليه بما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه القاضي وأخذت مالك. فرجع إلى مرزبان فسأله فقال: انتظرني بباب القاضي؛ فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل وقال: إن رأيت أن تترك إلي القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج، فنزل مرزبان إلى حفص المذكور فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم، فقال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق، أصلح الله القاضي، فقال القاضي: ما تقول يا رجل فقد أقر لك، فقال: يعطيني مالي، فأقبل حفص على المجوسي فقال: ما تقول؟ فقال: هذا المال على السيدة، فقال: أنت أحمق تقر ثم تقول على السيدة؟ ما تقول يا رجل؟ قال: أصلح الله القاضي إن أعطاني مالي وإلا حبسته، قال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: المال على السيدة، فقال حفص: خذوا بيده إلى الحبس؛ فلما حبس بلغ الخبر أم جعفر فغضبت وبعثت إلى السندي: وجه إلى المرزبان، وكانت القضاة تحبس الغرماء في مجلس الشرط، فأخرجه. وبلغ الخبر حفصاً فقال: أحبس أنا ويخرج السندي؟ لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس، فجاء السندي إلى أم جعفر فقال: الله الله في، إنه حفص ابن غياث وأخاف من أمير المؤمنين أ، يقول لي: بأمر من أخرجته؟ رديه إلى الحبس، وأنا أكلم حفصاً في أمره؛ فرجع مرزبان إلى الحبس فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي واستخف به، فمره لا ينظر في الحكم وتولي أمره أبا يوسف، فأمر لها بالكتاب وبلغ حفصاً الخبر فقال: أحضري شهوداً حتى أسجل لك على المجوسي؛ وجلس حفص وسجل على المجوسي بالمال، وورد كتاب هارون مع خادم فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال: مكانك؛ نحن في شيء حتى نفرغ منه، فقال: كتاب أمير المؤمنين، فقال: انظر ما يقال لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه فقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له إن كتابه ورد وقد أنفذت الحكم، فقال الخادم: قد عرفت ما صنعت، أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد؛ والله لأخبرن أمير المؤمنين بما فعلت! فقال حفص: قل له ما أحببت، فجاء الخادم فأخبر هارون فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بثلاثين ألف درهم، فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصاً منصرفاً من مجلس القضاء فقال: أيها القاضي قد سررت أمير المؤمنين وأمر لك بثلاثين ألف درهم فما السبب؟ فقال: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته ما زدت على ما أفعل كل يوم، سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه؛ قال يحيى بن خالد: فمن هذا سر أمير المؤمنين، فقال حفص: الحمد لله كثيراً، فقالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصاً، فأبى عليها، ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية وولاء قضاء الكوفة، فمكث عليها ثلاث عشرة سنة.

وكان أبو يوسف لما ولي حفص القضاء قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه: أين النوادر التي زعمت بكتبها؟ قال: ويحكم إن حفصاً أراد الله فوفقه.

وقال حفص: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة.

ومات رحمه الله ولم يخلف درهماً وخلف عليه تسعمائة درهم ديناً.

وكان يقال: ختم القضاء بحفص بن غياث.

وقال الحسين بن المغيرة: رأى بعض الصالحين كأن زورقاً غرق بين الجسرين وفيه عشرون قاضياً، فما نجا منهم إلا ثلاثة على سوءاتهم: حفص بن غياث والقاسم بن معن وشريك.

وقال يحيى بن معين: جميع ما حدث به حفص بن غياث ببغداد والكوفة إنما هو من حفظه، لم يخرج كتاباً؛ كتبوا عنه ثلاثة آلاف وأربعة آلاف حديث من حفظه.

قال عبيد الله بن صالح العجلي: حدثني أبي قال: حفص بن غياث ثقة مأمون فقيه وكان على قضاء الكوفة، وكان وكيع ربما يسأل عن الشيء فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فاسألوه، وكان شيخاً عفيفاً مسلماً.

ولد حفص بن غياث سنة سبع عشرة ومائة ومات سنة أربع وتسعين ومائة في العشر من ذي الحجة، وقيل مات سنة ست وتسعين ومائة، رحمه الله تعالى.