حماد الراوية

أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور-وقيل ميسرة-بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل المعروف بالراوية، وقال ابن قتيبة في كتاب "المعارف" وفي كتاب "طبقات الشعراء": إنه مولى مكنف بن زيد الخيل الطائي الصحابي رضي الله عنه؛ كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع الطوال فيما ذكره أبو جعفر النحاس، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها.

وقال له الوليد بن يزيد الأموييوماً وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ومحدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له: فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ فقال: كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعراء الجاهلية دون شعراء الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم.

قال الطرماح: أنشدت حماداً الراوية قصيدة لي ستين بيتاً فسكت ساعة ثم قال: أهذه لك؟ قلت: نعم، قال: ليس الأمر كذلك، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها في وقته.

دخل مطيع بن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية فإذا سراجه على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين، فقال له يحيى: يا حماد، إنك لمترف متبذل بحر المتاع، وقال له مطيع: ألا تبيع هذه المنارة وتشتري بأقل ثمناً منها منارة تزيل بها عذرك وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع؟ وقال له يحيى: ما أحسن ظنك به! ومن أين له هذه المنارة؟ هذه وديعة أو عارية، وقال مطيع: إنه لعظيم الأمانة عند الناس، قال يحيى: وعلى عظم أمانته فما أجهل من يخرج هذه من داره ويأمن عليها غيره، قال مطيع: ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال وإلا فمن يخرج هذه من بيته؟ فقال حماد: يرهنها من يدخلكما على بيته ليلقى عليها من أنواع المداعبة، وهل عند أحد من المال ما يرهن؟.

وذكر أبو محمد الحريري صاحب كتاب "المقامات" في كتابه "درة الغواص" ما مثاله: قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وتولى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق إليه من إخواني سراً، فلما أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت، فخرجت أصلي الجمعة، وصليت في جامع الرصافة الجمعة، فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي-وكان والياً على العراق-فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً ثم أصير معكما؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتاباً فيه "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر؛ أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعت إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق". فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا جمل هرحول، فركبته وسرت حتى وافيت دمشق في اثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه، فرد علي السلام واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال: كيف أنت يا حماد؟ وكيف حالك؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله، قلت: وما هو؟ قال:

 

ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت

 

قينة في يمينـهـا إبـريق

 

فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة، قال: أنشدنيها، فأنشدته:

 

بكر العاذلون في وضح الصب

 

ح يقولون لي اما تسـتـفـيق

ويلومون فيك يا ابنة عبـد الـل

 

ه والقلب عندكـم مـوهـوق

لست أدري إذا أكثروا العذل فيه

 

أعدو يلومـنـي، أم صـديق

 

قال حماد: فانتهيت فيها إلى قوله:

 

ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت

 

قينة في يمينـهـا إبـريق

قدمته على عقار كعـين ال

 

ديك صفى سلافها الراووق

مزة قبل مزجها فـإذا مـا

 

مزجت لذ طعمها من يذوق

وطفا فوقها فقاقيع كـالـيا

 

قوت حمر يزينها التصفيق

ثم كان المزاج ماء سحـاب

 

لا صرى آجن ولا مطروق

 

قال: فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد-وفي هذه الحكاية زيادة فإنه قال: اسقيه يا جارية، فسقتني، وهذا ليس بصحيح، فإن هشاماً لم يكن يشرب، فلا حاجة إلى ذكر تلك الزيادة-ثم قال: يا حماد، سل حاجتك، فقلت: كائنة ما كانت؟ قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، وأنزله في داره، ثم نقله من غد إلى منزل أعده له، فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة، ووصله بمائة ألف درهم. قال حماد: فسرت وأنا أيسر خلق الله إلى الكوفة فقلت:

 

أنت الذي تنزل الأيام منزلهـا

 

وتنقل الدهر من حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى أحد

 

إلا قضيت بـأرزاق وآجـال

تروم شحاً فتمسـي الـبـيض

 

وتستهل فتبكي أعين الـمـال

 

قلت: هكذا ساق الحريري هذه الحكاية، وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن والياً بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن الله القسري-الآتي ذكره إن شاء الله تعالى-حسبما يقتضيه تاريخ ولايته وانفصاله وولاية يوسف بن عمر في ترجمته أيضاً.


وأخبار حماد ونوادره كثيرة.


وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائة، ومولده في سنة خمس وتسعين للهجرة. وقيل إنه توفي في خلافة المهدي، وتولى المهدي الخلافة يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي ليلة الخميس لسبع بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة بقربة يقال لها الرذ، من أعمال ما سبذان، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

 

وأكرم قبر بـعـد مـحـمـد

 

نبي الهدى قبر بمـا سـبـذان

عجبت لأيد هالك الترب فوقـه

 

ضحى كيف لم ترجع بغير بنان

 

ولما مات حماد الراوية رثاه أبو يحيى محمد بن كناسة، وهو لقبه، واسمه عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة بن نضلة بن أنيف بن مازن بن ذويبة بن أسامة ابن نصر بن قعين، يقوله:

 

لو كان ينجى من الردى حذر

 

نجاك مما أصابك الـحـذر

يرحمك الله من أخـي ثـقة

 

لم يك في صفو وده كـدر

فهكذا يفسد الـزمـان ويف

 

نى العلم فيه ويدرس الأثـر

وكان حماد المذكور قليل البضاعة من العربية، قيل إنه حفظ القرآن الكريم من المصحف، فصحف في نيف وثلاثين حرفاً، رحمه الله تعالى.