أبو الهيثم خالد بن يزيد بن الهيثم التميمي الخراساني؛ كان أحد كتاب الجيش ببغداد وله شعر مدون وشعره كله في الغزل؛ حكى أبو الحسن البرمكي قال: كنا جلوساً على باب عبد الصمد بن المعذل بن علي ومعنا رجل ينشدنا أشعار عبد الصمد، إذ أقبل خالد بن يزيد الكاتب فجلس إلينا فقال: فيم كنتم؟ فقلنا بجهلنا: هذا ينشدنا شيئاً من أشعار عبد الصمد، فالتفت إليه خالد فقال: يا فتى من ذا الذي يقول:
تناسيت ما أوعيت سمعك يا سمعي |
|
كأنك بعد الضر خال من النفـع |
ثم قال: يا فتى هل أحسن عبد الصمد أن يجعل للسمع سمعاً؟ فقال: لا، ثم أنشد:
لئن كان أضحى فوق خديه روضة |
|
فإن على خدي غديراً من الدمـع |
ثم نهض، فقال لنا المنشد: من هذا؟ فقلنا: خالد الكاتب، فعدا خلفه وانقطعت نعله وانقلبت محبرته حتى كتب البيتين؛ ومن شعر خالد المذكور:
هبك الخلـيفة حـين ير |
|
كب في مواكبه وجنده |
أو هبك كـنـت وزيره |
|
أو هبك كنت ولي عهده |
هل كنت تقدر أن تـزي |
|
د المبتلى بك فوق جهده |
وقال ثعلب: ما أحد من الشعراء تكلم في الليل إلا قارب إلا خالد الكاتب فإنه أبدع في قوله:
رقدت فلم ترث للساهر |
|
وليل المحب بلا آخـر |
ولم تدر بعد ذهاب الرقاد |
|
ما صنع الدمع بالناظر |
فإنه لم يجعل لليل آخراً، وقيل لخالد: من أين قلت في قصيدتك "وليل المحب بلا آخر"؟ فقال: وقفت على باب وعليه سائل مكفوف وهو يقول: الليل والنهار علي سواء، فأخذت هذا منه.
وذكر ميمون بن حماه قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله ابن الأعرابي فقلت له: أسمعت من شعر هذا الغليم شيئاً؟ قال: من هو؟ قلت: خالد بن يزيد، فقال: لا وإني لأحب ذلك، فصاح به فجاء حتى وقف عليه، فقلت: أنشد أبا عبد الله من شعرك، فقال: إنما أقول في شجون نفسي ولا أمدح ولا أهجو، فقلت: أنشده، فأنشده:
أقـــول لـــلـــســـقـــم عـــد إلـــى بــــدنـــــــي |
|
شوقـــاً لـــشـــيء يكـــون مـــن ســـبـــــبـــــــك |
|
|
|
فقال ابن الأعرابي: حسبك يا غلام فقد خيل لي أن الرقة قد جمعت لك في هذا البيت.
قال جحظة: حدثني خالد بن يزيد الكاتب قال: لم اشعر إلا ورسول إبراهيم ابن المهدي قد وافاني، فدخلت إليه فقال: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدته:
رأت منه عيني منظرين كمـا رأت |
|
من البدر والشمس المضيئة بالأرض |
عشـية حـيانـي بـورد كـأنــه |
|
خدود أضيفت بعضهن إلى بعـض |
وناولني كأسـاً كـأن حـبـابـهـا |
|
دموعي لما صد عن مقلتي غمضي |
وراح وفعل الراح في حـركـاتـه |
|
كفعل نسيم الريح في الغصن الغض |
فزحف حتى صار في ثلثي المصلى ثم قال: يا بني شبه الناس الخدود بالورد وشبهت أنت الورد بالخدود، ثم قال: زدني، فأنشدته:
عاتبت نفسـي فـي هـوا |
|
ك فلم أجدهـا تـقـبـل |
وأجبـت داعـيهـا إلـي |
|
ك ولم أطع مـن يعـذل |
لا والذي جعـل الـوجـو |
|
ه لحسن وجهك تـمـثـل |
لا قـلـت إن الـصــب |
|
ر عنك من التصابي أجمل |
فزحف حتى صار خارج المصلى، ثم قال: زدني، فأنشدته:
ظفر الحب بقلب دنـف |
|
بك والسقم بجسيم ناحل |
وبكى العاذل من رحمته |
|
فبكائي لبكاء الـعـاذل |
فصاح وقال: يا بليق كم معك من العين؟ قال: ستمائة وخمسون ديناراً، فقال: اقسمها بيني وبينه واجعل الكسر للغلام كاملاً.
وذكر أحمد بن صدقة المغني قال: اجتزت بخالد الكاتب يوماً فقلت له: اعمل لي أبياتاً أغني بها أمير المؤمنين-يعني المأمون-فقال: وأي حظ لي في ذلك؟ تأخذ الجائزة وأحصل أنا على الإثم، فحلف له أنه إن وصله بشيء قاسمه إياه فقال لي: أنت أنذل من ذلك ولكن ذكره بي فلعله أن يصلني بشيء، قلت: أفعل، فأنشدني:
تقول سلا فمن المدنف |
|
ومن عينه أبداً تذرف |
ومن قلبه قلق خـائف |
|
عليك وأحشاؤه ترجف |
فحفظت الشعر وعملت فيه لحناً وحضرنا عند أمير المؤمنين من الغد وكان بينه وبين بعض حظاياه هجرة فوجهت إليه بتفاحة عليها مكتوب بالغالية: يا سيدي سلوت، وابتدأت أغني بشعر خالد، فلما غنيته إياه انقلبت عيناه ودارتا في رأسه وظهر الغضب في وجهه وقال: لكم على حرمي أصحاب أخبار!! فقمت إعظاماً لما شهدت منه وقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله أن يظن بعبد من عبيده هذا الظن وأنزه داره أن يكون لأحد عليها صاحب خبر، قال: فمن أين عرفت خبري مع جاريتي حتى غنيت في معنى ما بيننا؟ فحدثته حديثي مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله: أنت أنذل من ذلك فقال: أشهد أنك كذلك، وأسفر وجهه وقال: ما أعجب هذا الاتفاقّ وأمر لي بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها.
وقال بعض من كان يحضر مجلس أبي العباس المبرد: كنا نختلف إليه فإذا كان في آخر المجلس أملى علينا من طرف الأخبار وملح الأشعار ما نرتاح إلى حفظه، فأنشدنا يوماً مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب وهي:
إن السماحة والمروة والـنـدى |
|
قبر بمرو على الطريق الواضح |
فإذا مررت بقبره فاعقـر بـه |
|
كوم الهجان وكل طرف سابـح |
وانضح جوانب قبره بدمـائهـا |
|
فلقـد يكـون أخـادم وذبـائح |
مات المغيرة بعد طول تعـرض |
|
للموت بين أسـنة وصـفـائح |
قال: فخرجت من عنده وأنا أدير بها لساني لأحفظها، فإذا بشيخ قد خرج من خربة وفي يده حجر، فهم أن يرميني به، فتترست منه بالمحبرة والدفتر، فقال: ماذا تقول؟ أتشتمني؟ قلت: اللهم لا، ولكني كنت عند أستاذنا أبي العباس المبرد فأنشدنا مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب، فقال: إيه إيه أنشدني ما أنشدكم باردكم لا مبردكم، فأنشدته الأبيات فقال: والله ما جود الراثي ولا أنصف المرثي ولا أحسن الراوي، قلت: فما عساه أن يقول؟ قال: كان يقول:
احملاني إن لم يكن لكما عق |
|
ر إلى جنب قبره فاعقراني |
وانضحا من دمي عليه فقـد |
|
كان دمي من نداه لو تعلمان |
قال: فقلت: هل رأيت أحداً واسى أحداً بنفسه؟ قال: نعم، هذا الفتح ابن خاقان طرح نفسه على المتوكل حتى خلط لحمه بلحمه ودمه بدمه، ثم تركني وولى؛ قال: فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال: أتعرفه؟ قلت: لا، قال: ذلك خالد الكاتب تأخذه السوداء في ايام الباذنجان. وقيل كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده فوسوس؛ قال بعضهم: فرأيته ببغداد والصبيان يتبعونه ويصيحون به: يا بارد يا بارد، فأسند ظهره إلى قصر المعتصم وقال لهم: كيف أكون بارداً وأنا الذي أقول:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته |
|
وكم مثله من مسعد ومـعـين |
ورقت دموع العين حتى كأنهـا |
|
دموع دموعي لا دموع جفوني |
وحكى أبو الحسن علي بن محمد بن مقلة قال: حدثني أبي عن عمه قال: اجتاز بن خالد الكاتب وأنا على باب داري بسر من رأى والصبيان حوله يولعون به، فجاء إلي وسألني صرفهم عنه ففعلت وأدخلته داري فقلت له: ما تشتهي تأكل؟ قال: هريسة، فتقدمت بإصلاحها له، فلما أكل قلت له: أي شيء تحب بعد هذا؟ قال: رطب، فأمرت بإحضاره فأكل، فلما فرغ من أكله قلت: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدني قوله:
تناسيت ما أوعيت سمعك يا سمعي |
|
كأنك بعد الضر خال من النـفـع |
أما عند عينيك اللتين همـا هـمـا |
|
لمكتئب يرجوك شيئاً سوى المنـع |
فإن كنت مطبوعاً على الصد والجفا |
|
فمن أين لي صبر فأجعله طبعـي |
فإن يك أضحى فوق خديك روضة |
|
فإن على خدي غديراً من الدمـع |
سل المطر العام الذي عم أرضكـم |
|
أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي |
فقلت: زدني، فقال: لا يصيبك بهريسة ورطب غير هذا، والله أعلم.