أبو سليمان داود بن نصير الطائي الكوفي؛ سمع عبد الملك بن عمير وحبيب بن أبي عمرة وسليمان الأعمش ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ روى عنه إسماعيل بن عيينة ومصعب بن المقدام وأبو نعيم الفضل بن دكين وغيرهم؛ وكان داود ممن شغل نفسه بالعلم ودرس الفقه وغيره من العلوم ثم اختار بعد ذلك العزلة وآثر الانفراد والخلوة فلزم العبادة واجتهد فيها إلى آخر عمره، وقدم بغداد في أيام المهدي ثم عاد إلى الكوفة وفيها كانت وفاته؛ قال علي بن المديني: سمعت ابن عيينة يقول: داود الطائي ممن علم وفقه، قال: وكان يختلف إلى أبي حنيفة رضي الله عنه حتى تقدم في ذلك الكلام؛ قال: فأخذ يوماً حصاة فحذف بها إنساناً فقال له: يا أبا سليمان طال لسانك وطالت يدك، قال: فاختلف بعد ذلك سنة لا يسأل ولا يجيب، فلما علم أنه تصبر عمد إلى كتبه فغرقها في الفرات ثم أقبل على العبادة وتخلى. وقال عبيد بن جناد سمعت عطاء يقول: كان لداود الطائي ثلثمائة درهم فعاش بها عشرين سنة ينفقها على نفسه؛ قال: وكنا ندخل على داود الطائي فلم يكن في بيته إلا بارية ولبنة يضع عليها رأسه واجانة فيها خبز ومطهرة يتوضأ منها ومنها يشرب.
وقال أبو سليمان الداراني: ورث داود الطائي من أمه داراً، فكان يتنقل في بيوت الدار كلما تخرب بيت من الدار انتقل منه إلى آخر ولم يعمره حتى أتى على عامة البيوت التي في الدار؛ قال وورث من أبيه دنانير فكان يتنفق بها حتى كفن بآخرها.
وقال اسماعيل بن حسان: جئت إلى باب داود الطائي فسمعته يخاطب نفسه فظننت أن عنده أحداً، فأطلت القيام على الباب ثم استأذنت فدخلت، فقال: ما بدا لك في الاستئذان؟ قلت: سمعتك تتكلم فظننت أن عندك أحداً، قال: لا ولكن كنت أخاصم نفسي؛ اشتهت البارحة تمراً فخرجت فاشتريت لها، فلما جئت اشتهت جزراً، فأعطيت الله عهداً ان لا آكل تمراً ولا جزراً حتى ألقاه.
وقدم محمد بن قحطبة الكوفة فقال: أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي حافظ لكتاب الله تعالى عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآثار والفقه والنحو والشعر وأيام الناس؛ فقيل له: ما يجمع هذه إلا داود الطائي، فسير إليه بدرة عشرة آلاف درهم، وقال: استعن بها على دهرك، فردها فوجه إليه بدرتين مع غلامين مملوكين وقال لهما: إن قبل البدرتين فأنتما حران، فمضيا بهما إليه فأبى أن يقبلهما، فقال: إن في قبلوهما عتق رقبانا من الرق، فقال لهما: إني أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي في النار، رداهما إليه وقولا له: إن ردهما على أخذهما منه أولى من أن يعطيني أنا.
وكان حائطه قد تصدع فقيل له: لو أمرت به، فقال: كانوا يكرهون فضول النظر.
وقيل إنه صام أربعين سنة ما علم به أحد من أهله، فكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق ويرجع إلى أهله يفظر عشاء، ولا يعلمون أنه صائم.
وقال له رجل: ألا تسرح لحيتك؟ قال: إني عنها مشغول. وقيل احتجم داود فدفع إلى الحجام عشرة دراهم فقيل له: هذا سرف، فقال: لا عبادة لمن لا مروءة عنده.
وقالت أخته: لو تنحيت عن الشمس، فقال: هذه خطي لا أدري كيف تكتب.
قال أبو الربيع الأعرج: دخلت على داود الطائي بيته بعد المغرب فقرب لي كسيرات يابسة، فعطشت فقمت إلى دن فيه ماء حار، فقلت: رحمك الله! لو اتخذت دفاً غير هذا يكون فيه الماء بارداً، فقال لي: إذا كنت لا أشرب إلا بارداً ولا آكل إلا طيباً ولا ألبس إلا ليناً، فما أبقيت لآخرتي؟ قال: قلت له: أوصني، قال: صم عن الدنيا، واجعل إفطارك فيها الموت، وفر من الناس فرارك من السبع، وصاحب أهل التقوى إن صحبت فإنهم أخف مؤونة وأحسن معونة، ولا تدع الجماعة، حسبك هذا إن عملت به.
وقا داود الطائي: ما حسدت أحداً على شيء إلا أن يكون رجلاً يقوم الليل؛ فإني أحب أن أرزق وقتاً من الليل. قال أبو خالد: وبلغني أنه كان لا ينام الليل، إذا غلبته عيناه احتبى قاعداً؛ ومكث عشرين سنة لا يرفع رأسه إلى السماء.
وقدم هارون الرشيد الكوفة فكتب قوماً من القراء فأمر لكل واحد منهم بألفي درهم فكان داود الطائي ممن كتب فيهم ودعي باسمه أين داود الطائي؟ فقالوا: داود يجيبكم؟ أرسلوا اليه، قال ابن السماك وحماد بن أبي حنيفة: نحن نذهب إليه، قال ابن السماك لحماد في الطريق: إذا نحن دخلنا عليه فانثرها بين يديه فإن للعين حظها، فقال حماد: رجل ليس عنده شيء يؤمر له بألفي درهم يردها!! فلما دخلوا عليه فنثروها بين يديه قال: سوءة، إنما يفعل هذا بالصبيان، وأبى أن يقبلها.
وقال حماد بن أبي حنيفة إن مولاة كانت لداود تخدمه قالت: لو طبخت لك دسماً تأكله، فقال: وددت، فطبخت له دسماً ثم أتته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم، قال: اذهبي بهذا إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدماً منذ كذا وكذا، فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحش، فقالت له: يا سيدي أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية، بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
وقال محارب بن دثار: لو كان داود في ا لأمم الماضية لقص الله تعالى شيئاً من خبره.
توفي داود سنة ستين، وقيل سنة خمس وستين ومائة، رحمه الله تعالى.
ولما مات جاء ابن السماك ووقف على قبره ثم قال: أيها الناس إن أهل الزهد في الدنيا تعجلوا الراحة على أبدانهم مع يسير الحساب غداً عليهم، وإن أهل الرغبة فيها تعجلوا التعب على أبدانهم مع ثقل الحساب غداً عليهم، والزهادة راحة لصاحبها في الدنيا والآخرة، والرغبة تعب لصاحبها في الدنيا والآخرة؛ رحمك الله أبا سليمان ما كان أعجب شأنك، ألزمت نفسك الصبر حتى قومتها: أجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، أخشنت الملبس وإنما تريد لينه؛ أبا سليمان: أما كنت تشتهي من الطعام طيبه، ومن الماء بارده، ومن اللباس لينه؟ بلى ولكن أخرت ذلك لما بين يديك، فما أراك إلا قد ظفرت بما طلبت وما إليه رغبت، فما أيسر ما ضيعت، وأحقر ما فعلت في جنب ما أملت، فمن سعى مثلك عزم عزمك وصبر صبرك، آنس ما يكون إذا كنت بالله خالياً وأوحش ما يكون آنس ما يكون الناس. سمعت الحديث وتركت الناس يحدثون وتفهمت في دين الله وتركتهم يفتون. لا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية، سجنت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا ستر على بابك، فلو رأيت جنازتك وكثرة تابعك علمت أنه قد شرفك وأكرمك وألبسك رداء عملك، فلو لم يرغب عبد في الزهد في الدنيا إلا لمحبة هذا الستر الجميل والتابع الكثير لكان حقيقاً بالاجتهاد، فسبحان من لا يضيع مطيعاً ولا ينسى لأحد صنيعاً.
وقيل إن ابن السماك لما قام على قبر داود قال: رحمك الله يا داود! كنت تسهر ليلك والناس نائمون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون، فقال الناس جميعاً: صدقت؛ وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، فقال الناس جميعاً: صدقت؛ حتى عدد فضائله كلها. ولما فرغ قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال: يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم مبلغ ما علموا، اللهم فاغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله، وفرغ من دفنه وقام الناس.
قال جعفر بن نفيل الرهبي: رأيت داود الطائي بعد موته فقلت له: كيف رأيت خير الآخرة؟ قال: رأيت خيرها كثيراً، قلت: فماذا صرت إليه؟ قال: صرت إلى خير الحمد لله، قال فقلت له: هل لك من علم بسفيان بن سعيد؟ فقال: كان يحب الخير وأهله فرقاه الخير إلى درجة أهل الخير.