ربيعة الرأي

أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، مولى آل المنكدر التيميين-تيم قريش-المعروف بربيعة الرأي، فقيه أهل المدينة؛ أدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وعنه أخذ مالك بن أنس رضي الله عنه. قال بكر بن عبد الله الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم، قلنا: أنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم، فقلنا: كيف حظي بك مالك وانت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم؟ وكان ربيعة يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النائم والأخرس. وكان يوماً في مجلسه وهو يتكلم، فوقف عليه أعرابي دخل من البادية فأطال الوقوف والإنصات إلى كلامه، فظن ربيعة أنه قد أعجبه كلامه، فقال له: يا أعرابي، ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز مع إصابة المعنى، فقال: وما العي؟ فقال: ما أنت فيه منذ اليوم، فخجل ربيعة.

قال عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخاً أبا عبد الرحمن بن ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي، فتؤاثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي؛ وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا. فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟ فقالت: نعم، قال: أخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام، ثم خرج ربيعةإلى المسجد وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به، فقالت امرأته لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلمن فخرج فنظر إلى حلقة وافرة فأتاها فوقف عليها فأخرجوا له قليلاً فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه يره، وعليه دنية طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: فقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه؟ فقال: لا والله بل هذا، فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فو الله ما ضيعته.

وقال معاذ بن معاذ: سمعت سوار ابن عبد الله يقول: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة الرأي، قلت: ولا الحسن وابن سيرين؟ قال: ولا الحسن وابن سيرين، وما كان بالمدينة رجل أسخى بما في يديه لصديق أو غيره من ربيعة الرأي، أنفق على إخوانه أربعين ألف درهم، ثم جعل يسأل إخوانه، فقيل له: أذهبت مالك وأنت تخلق جاهك، فقال: لا يزال هذا دأبي ما وجدت أحداً يغبطني على جاهي.

وكانت وفاته في سنة ست وثلاثين، وقيل سنة ثلاثين ومائة بالهاشمية، وهي مدينة بناها السفاح بأرض الأنبار وكان يسكنها، ثم انتقل إلى الأنبار رحمه الله تعالى.

وقال مالك بن أنس: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي.

قلت: ولا يمكن الجمع بين قول من يقول إنه توفي سنة ثلاثين ومائة وإنه دفن بالهاشمية التي بناها السفاح، لأن السفاح ولي الخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، كذا نقله أرباب التواريخ واتفقوا عليه، فتأمله.