الربيع بن يونس

أبو الفضل الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة-واسمه كيسان-مولى الحارث الحفار، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ كان الربيع المذكور حاجب أبي جعفر المنصور، ثم وزر له بعد أبي أيوب المورياني-الآتي ذكره في حرف السين إن شاء الله تعالى-وكان كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه؛ قال له يوماً: يا ربيع، سل حاجتك، قال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن تحب الفضل ابني، فقال له: ويحك! إن المحبة تقع بأسباب، فقال له: قد أمكنك الله من إيقاع سببها، قال: وما ذاك؟ قال: تفضل عليه، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك وإذا أحبك أحببته، قال: قد والله حببته إلي قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟ قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه، وصغر عندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك حاجة الشفيع العريان. أشار بقوله "الشفيع العريان" إلى قول الفرزدق الشاعر:

ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً

 

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

 

وهذا البيت من جملة أبيات في عبد الله بن الزبير بن العوام لما طلب الخلافة لنفسه واستولى على الحجاز والعراق في أيام عبد الملك بن مروان الأموي، وكان قد اختصم الفرزدق وزوجته النوار، فمضيا من البصرة إلى مكة، ليفصل الحكم بينهما عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق عند حمزة بن عبد الله، ونزلت النوار عند زوجة عبد الله، وشفع كل واحد منهما لنزيله، فقضى عبد الله للنوار وترك الفرزدق، فقال الأبيات المذكورة، فصار الشفيع العريان مثلاً يضرب لكل من تقبل شفاعته.


وكان أبو جعفر إذا أراد بإنسان خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد به شراً سلمه للمسيب، فكتب عامل فلسطين يذكر أن بعض أهلها وثب واستغوى جماعة وعاب في العمل، فكتب إليه أبو جعفر: دمك بواء بدمه إلى أن توجه به إلي، فأخذه ووجه به إليه، فلما دخل عليه قال: أنت المتوثب على عامل أمير المؤمنين؟ لأنثرن من لحمك أكثر ما بقي منه على عظمك، فقال له بصوت ضئيل، وكان شيخاً كبيراً:

 

أتروض عرسك بعد ما هرمت

 

ومن العناء رياضة الـهـرم

 

فقال أبو جعفر: يا ربيع، ما يقول: يقول:

العبد عبدكم والمـال مـالـكـم

 

فهل عذابك عني اليوم مصروف

 

فقال: قد عفوت عنه، فخلى سبيله وأحسن إليه. وهذا الشعر لسحيم عبد بني الحسحاس.


وقال له المنصور يوماً: ويحك يا ربيع، ما أطيب الدنيا لولا الموت! فقال له: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذاك؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قال: صدقت. وقال له المنصور لما حضرته الوفاة: يا ربيع، بعنا الآخرة بنومة.


وقال الربيع: كنا يوماً وقوفا على رأس المنصور وقد طرحت لولده المهدي-وهو يومئذ ولي عهده-وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رشحه أن يوليه بعض أموره، فقام بين السماطين، والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، وقال: إلي يا بني، واعتنقه، ونظر إلى وجوه الناس، هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله؟ فكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفةً منه، فقام شبة بن عقال التميمي، فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأسهل طريقه، وكيف لا يكون كذلك، وأمير المؤمنين أبوه، والمهدي أخوه؟ وهو كما قال الشاعر:

 

هو الجواد فإن يلحق بشأوهما

 

على تكاليفه فمثله لـحـقـا

أو يسبقاه على ما كان من مهل

 

فمثل ما قدما من صالح سبقا

 

فعجب من حضر بجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي؛ قال الربيع: فقال لي المنصور: لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم، فلم يخرج إلا بها.


ويقال: إن الربيع لم يكن له أب يعرف، وإن بعض الهاشميين دخل على المنصور وجعل يحدثه، ويقول: كان أبي رحمه الله تعالى، وكان، وأكثر من الترحم عليه، فقال له الربيع: كم تترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال له الهاشمي: انت معذور يا ربيع، لأنك لا تعرف مقدار الآباء، فخجل منه. ولما دخل أبو جعفر المنصور المدينة، قال للربيع: ابغني رجلاً عاقلاً عالماً ليقفني على دورها، فقد بعد عهدي بديار قومي، فالتمس له الربيع فتى من أعلم الناس وأعقلهم، فكان لا يبتدئ بالإخبار عن شيء حتى يساله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة وأجود بيان وأوفى معنى، فأعجب المنصور به، فأمر له بمال فتأخر عنه، ودعته الضرورة إلى استنجازه، فاجتاز ببيت عاتكة بنت عبد الله بن أبي سفيان الأموي، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة، الذي يقول فيه الأحوص بن محمد بن محمد الأنصاري:

 

يا بيت عاتكة الذي أتـعـزل

 

حذر العدا وبه الفؤاد موكل

إني لأمنحك الصدود وإننـي

 

قسماً إليك مع الصدود لأميل

 

ففكر المنصور في قوله، وقال: لم يخالف عادته بابتداء الإخبار دون الاستخبار غلا الأمر، وأقبل يردد القصيدة ويتصفحها شيئاً فشيئاً حتى انتهى إلى قوله فيها:

 

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم

 

مذق الحديث يقول ما لا يفعل

فقال المنصور: يا ربيع، هل أوصلت إلى الرجل ما أمرنا له به؟ قال: تأخر عنه لعلة ذكرها الربيع، فقال: عجله له مضاعفاً، وهذا ألطف تعريض من الرجل، وحسن فهم من المنصور.

وكان يقول: من كلم الملوك في الحاجات في غير أوقاتها لم يظفر ببغيته، وما أشبه الحال في ذلك إلا بأوقات الصلاة، فإن الصلاة لا تقبل إلا فيها، فمن أراد خطاب الملوك فليختر لذلك الوقت المنجح الذي يصلح فيه ذكر ما أراد ليصح النجح، وغلا فلا.

وحكت فائقة بنت عبد الله أم عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قالت: كنا يوماً عند المهدي أمير المؤمنين، وكان قد خرج متنزهاً إلى الأنبار، إذ دخل عليه الربيع، ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين قد عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما رأيت أعجب من هذه الرقعة، جاءني بها رجل أعرابي، وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين، دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه، وهذه هي الرقعة؛ فأخذها المهدي وضحك وقال: صدقت، هذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة كيف كانت؟ قلنا: أمير المؤمنين أعلى رأياً في ذلك، فقال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما الله به أعلم، وتحيرت عند ذلك فذكرت دعاء سمعته من أبي، يحكيه عن أبيه عن جده عن ابن عباس-رضى الله عنهما-رفعه، قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى "بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اعتصمت بالله وتوكلت على الله، حسبي الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" وقي وكفي وهدي وشفي من الحرق والغرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها، رفع الله لي ضوء نار، فقصدتها فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له، وإذا هو يوقد ناراً بين يديه، فقلت له: أيها الأعرابي، هل من ضيافة؟ فقال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هاتي ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماء، فأتى بسقاء فيه مذقة لبن أكثرها ماء، فشربت منها شربة ما شربت شيئاً قط إلا وهي أطيب منه، وأعطاني حلساً له فوضعت رأسي عليه، فنمت نومة ما نمت أطيب منها وألذ، ثم انتبهت، فإذا هو قد وثب إلى شويهة فذبحها، وإذا امرأته تقول له: ويحكّ قتلت نفسك وصبيتك، إنما كان معاشكم من هذه الشاة، فذبحتها فبأي شيء نعيش؟ قال: فقلت: لا عليك، هات الشاة، فشققت جوفها، واستخرجت كبدها بسكين كانت في خفي، فشرحتها ثم طرحتها على النار وأكلتها، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب لك فيه؟ فجاءني بهذه القطعة من جراب، وأخذت عوداً من الرماد الذي بين يديه، وكتبت له هذا الكتاب، وختمته بهذا الخاتم، وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت بخمسمائة ألف درهم، لا أنقص والله منها درهماً واحداً، ولو لم يكن في بيت المال غيرها؛ احملوها معه، فما كان إلا قليل حتى كثرت إبله وشاؤه، وصار منزلاً من المنازل ينزله الناس ممن اراد الحج، وسمي منزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.

 وقال أبان بن صدقة: كنت أخلف الربيع على كتبه للمنصور، فدخلت يوماً وعلي خز أسود جديد والمنصور في قباء خز خلق، فجعل ينظر إلي فضاقت علي الدنيا، وخرج الربيع فقلت إني أخطأت خطأً عظيماً، وعرفته الخبر فقال: ما ذاك إلا لخير فلا يحزنك، فلما كان من غد دخلت في قباء خز خلق فقال لي المنصور: أما عندك أحسن من هذا تلبسه أمام المنصور؟ قلت: بلى، ولكن رأيت أمير المؤمنين لبس قباء خلقاً وكان علي قباء جديد فضاقت علي الرض إذ لبست أفضل من لباسه، فقال: لا تفعل، ألبس خير ما عندك في خدمتي ليتبين الناس إحساني إليك ولا تلبس مثل هذا فيظن بي إساءة إليك، فإن الناس يعلمون أني أقدر على أشرف اللباس وإن لم ألبس وأنت فلا يظن ذلك بك، قال: فعلمت أن الربيع أعقل الناس وأعلمهم بأخبار أمير المؤمنين.

وكانت وفاة الربيع في أول سنة سبعين ومائة. وقال الطبري: مات الربيع في سنة تسع وستين ومائة. وقيل إن الهادي سمه، وقيل مرض ثمانية أيام ومات، والله أعلم، رحمه الله تعالى.

وإنما قيل لجده "أبو فروة لأنه أدخل المدينة وعليه فروة، فاشتراه عثمان رضي الله عنه وأعتقه، وجعل يحفر القبور، وكان من سبي جبل الخليل صلى الله عليه وسلم-وسيأتي ذكر ولده الفضل إن شاء الله تعالى-.

وقطيعة الربيع منسوبة إليه، وهي محلة كبيرة مشهورة ببغداد، وإنما قيل لها قطيعة الربيع لأن المنصور أقطعه إياها.