أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي الملقب شهاب الدين المعروف بحيص بيص الشاعر المشهور؛ كان فقيهاً شافعي المذهب، تفقه بالري على القاضي محمد بن عبد الكريم الوزان، وتكلم في مسائل الخلاف، إلا أنه غلب عليه الأدب ونظم الشعر، وأجاد فيه مع جزالة لفظه، وله رسائل فصيحة بليغة. ذكره الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتاب "الذيل" وأثنى عليه. وحدث بشيء من مسموعاته، وقرئ عليه ديوانه ورسائله، وأخذ الناس عنه أدباً وفضلاً كثيراً؛ وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم. ويقال إنه كان فيه تيه وتعاظم، وكان لا يخاطب أحداً إلا بالكلام العربي، وكانت له حوالة بمدينة الحلة، فتوجه إليها لاستخلاص مبلغها، وكانت على ضامن الحلقة، فسير غلامه إليه فلم يعرج عليه وشتم أستاذه، فشكاه إلى والي الحلة، وهو يومئذ ضياء الدين مهلهل بن أبي العسكر الجاواني، فسير معه بعض غلمان الباب ليساعده، فلم يقنع أبو الفوارس منه بذلك، فكتب إليه يعاتبه، وكانت بينهما مودة متقدمة "ما كنت أظن أن صحبة السنين ومودتها يكون مقدارها في النفوس هذا المقدار، بل كنت أظن أن الخميس الجحفل لو زن لي عرضاً لقام بنصري من آل أبي العسكر حماة غلب الرقاب، فكيف بعامل سويقة، وضامن حليلة وحليقة؟ ويكون جوابي في شكواي أن ينفذ إليه مستخدم يعاتبه، ويأخذ ما قبله من الحق، لا والله:
إن الأسود أسود الغاب همـتـهـا |
|
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب |
وبالله أقسم، ونبيه وآل بيته، لئن لم تقم لي حرمة يتحدث بها نساء الحلة في أعراسهن ومناحاتهن، لا أقام وليك بحلتك هذه، ولو أمسى بالجسر أو القناطر، هبني خسرت خمر النعم أفأخسر أبيتي، واذلاه، واذلاه، والسلام".
وكان يلبس زي العرب ويتقلد سيفاً، فعمل فيه أبو القاسم ابن الفضل-الآتي ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى-وذكر العماد في "الخريدة" أنها للرئيس علي بن الأعرابي الموصلي، وذكر أنه توفي سنة سبع وأربعين وخمسمائة:
كم تبادى وكم تطول طـرطـو |
|
رك؟ ما فيك شعرة من تـمـيم |
فكل الضب واقرط الحنظل الـيا |
|
بس واشرب ما شئت بول الظليم |
ليس ذا وجه من يضيف ولا يق |
|
ري ولا يدفع الأذى عن حـريم |
فلما بلغت الأبيات أبا الفوارس المذكور عمل:
لا تضع من عظيم قدر وإن كن |
|
ت مشاراً إليه بالـتـعـظـيم |
فالشريف الكريم ينقص قـدراً |
|
بالتعدي على الشريف الكـريم |
ولع الخمر بالعقول رمى الخم |
|
ر بتنجيسها وبـالـتـحـريم |
وعمل فيه خطيب الحويزة البحيري:
لسنا وحـقـك حـيص بـي |
|
ص من الأعارب في الصميم |
ولقد كذبت عـلـى بـحـي |
|
ر كما كذبت علـى تـمـيم |
وقال الشيخ نصر الله بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن، وكان من الثقات أهل السنة: رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تم؟ فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص، فخرج إلي، فذكرت له الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني:
ملكنا فكان العفو مـنـا سـجـية |
|
فلما ملكتم سال بالـدم أبـطـح |
وحللتم قتل الأسارى، وطـالـمـا |
|
غدونا على الأسرى نعف ونصفح |
فحسبكم هذا التـفـاوت بـينـنـا |
|
وكل إناء بالـذي فـيه ينـضـح |
وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقي عليه هذا اللقب، ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، تقول العرب: وقع الناس في حيص بيص، أي في شدة واختلاط.
وكانت وفاته ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربع وسبعين وخمسمائة ببغداد، ودفن من الغد بالجانب الغربي في مقابر قريش، رحمه الله تعالى.
وكان إذا سئل عن عمره يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة، لأنه كان لا يحفظ مولده، وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب. ولم يترك أبو الفوارس عقباً.
وصيفي: بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الفاء وبعدها ياء.
والحويزة: بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها زاي ثم هاء، وهي بليدة من إقليم خوزستان على اثني عشر فرسخاً من الأهواز.