سليمان بن عبد الملك

أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه ولادة أم أخيه الوليد؛ بويع له يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وتوفي بذات الجنب بدابق لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين وله خمس وأربعون سنة، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام. وكان الناس يتبركون به ويسمونه مفتاح الخير، وذلك أنه أذهب عنهم سنة الحجاج وأطلق السرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهن فكان يقال: فتح بخير وختم بخير.

وكان قد أغزى أخاه مسلمة الصائفة حتى بلغ القسطنطينية، فأقام بها حتى هلك سليمان؛ وقيل إن سليمان لما وجه أخاه لفتح القسطنطينية أمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره، فسار إليها مسلمة، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مدين من الطعام حتى يأتي به قسطنطينية، ففعلوا ذلك، وألقى ذلك الطعام مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً، وأقام بأرضهم وشتا وصيف وزرع، والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع؛ فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهراً لأهلها ومعه وجوه أهل الشام، ومات ملك الروم ومسلمة نازل عليها، فكتب الروم إلى اليون صاحب أرمينية، فسار اليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة ووعده أن يسلم إليه قسطنطينية. وكانت الروم قد أرسلوا إلى اليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك، فلما أتى اليون مسلمة قال له: إنك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم مادام هذا الطعام عندك وقد أحسوا بذلك منك، فلو أحرقت الطعام أعطوا ما بأيديهم، فأحرقه مسلمة، ووجه مع اليون من شيعه حتى دخل القسطنطينية، فلما دخلها ملكه الروم عليهم، فأرسل إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له أن يدخل من الطعام، من النواحي، ما يعيش به القوم حتى يصدقوه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من الشتات والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام. وهيأ اليون السفن والرجال، فأذن له مسلمة، فحمل جميع ما في تلك النواحي من الغلة في ليلة واحدة، وأفرج اليون وأصبح محارباً لمسلمة، وظهرت هذه الخديعة التي لا تتم على النساء، وأقام المسلمون في قلة الميرة، وحصلت الميرة جميعها عند الروم، ولقي المسلمون من الشدة ما لم يلق أحد قط حتى إن الرجل كان يخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والعروق والورق وكل شيء حتى الروث، هذا وسليمان مقيم بدابق، فدهمهم الشتاء ولم يقدر أن يمدهم، حتى هلك سليمان.

قيل غنه خرج من الحمام يريد الصلاة ونظر في المرآة فأعجبه جماله، وكان حسن الوجه فقال: أنا الخليفة الشاب، فلقيته إحدى حظاياه، فقال: كيف ترينني؟ فتمثلت:

 

ليس فيما بدا لنا فيك عـيب

 

عابه الناس غير أنك فـان

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

 

غير أن لا بقاء للإنـسـان

ورجع فحم، فما بات تلك الليلة إلا ميتاً.

وكان عاقلاً ديناً متوقفاً عن الدماء، ويقال إنه كان شرهاً نكاحاً، يأكل في كل يوم نحو مائة رطل، وكان به عرج.

وحج بالناس سنة سبع وتسعين فمر على المدينة وهو يريد مكة فقال: أهاهنا أحد يذكرنا؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدعاه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال: يا أمير المؤمنين، أعيذلك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد ابن شهاب وقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا؛ فقال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما أنا عند الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده؟ قال: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)، قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل؟ قال: أولو المروءة والتقى، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المحسن للمحسن، قال: فأي الصدقة أزكى؟ قال: صدقة السائل البائس وجهد من مقل ليس فيها من ولا أذى؛ قال: فأي القول أعدل؟ قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه؛ قال فأي الناس أحمق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره؛ قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين أو تعفيني من ذلك؟ قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إلي؛ قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضى حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم؛ فغشي على سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم! قال أبو حازم: كذبت يا عدو الله، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟ قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروة وتقسم بالسوية، قال سليمان: كيف المأخذ به؟ قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله يا أمير ا لمؤمنين! قال: ولم؟ قال: أشخى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إلي حوائجك، قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك غلي، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادع لي الله يا أبا حازم، قال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: زدني، قال: يا أمير المؤمنين قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فيما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، قال: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام، فبعث إليه سليمان بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير، فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردي عليك باطلاً، فو الله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ يا أمير المؤمنين إن كانت هذه المائة عوضاً لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حل الاضطرار أحل من هذه، وإن كانت هذه حقاً لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سويت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها؛ قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين أيسرك أن يكون الناس كلهم مثله؟ قال: لا والله، قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل ما داموا على الهدى والرشد كان أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، فلما رئي قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء يريدون به الدنيا استغنت الأمراء عن العلماء فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، ولو أن علماءهم زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء فزهدوا فيهم وهانوا في أعينهم، فقال: الزهري: إياي تعني وتعرض بي؟ فقال أبو حازم: لا والله ما تعمدتك ولكن هو ما تسمع؛ قال سليمان للزهري: هل تعرفه؟ قال: يا أمير المؤمنين إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته، قال أبو حازم: أجل والله لو أحببت الله لعرفتني ولكن لم تحب الله فنسيتني، فقال الزهري: يا أبا حازم تشتمني! قال: لا، ولكنك شتمت نفسك، أما علمت أن للجار حقاً كالقرابة؟ حقاً كالقرابة؟ جاء سليمان يوماً إلى طاوس فلم ينظر إليه، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن يعلم أن الله رجالاً يزهدون فيما لديه.

وشاور سليمان عمر بن عبد العزيز في أمر، فقال سليمان: هل علينا عين؟ فقال عمر نعم عين بصيرة لا تحتاج إلى تحديق، وسمع نافذ لا يحتاج إلى إصغاء.

حضر أعرابي إلى مائدة سليمان فجعل يمد يده فقال له الحاجب: كل ما بين يديك، فقال الأعرابي: من أجدب انتجع، فشق ذلك على سليمان وقال له: لا تعد إلينا؛ ودخل آخر فمد يده فقال له الحاجب: كل مما يليك، فقال: من أخصب تخير، فأعجب ذلك سليمان وقضى حوائجه.

وحكى عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كنت نديماً لسليمان بن عبد الملك، وإني لعنده ذات يوم إذ دخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن بالباب أعرابياً وله دين، فلو أذنت له فسمعت كلامه، قال: نعم، يا غلام، إيذن للأعرابي، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله فإن وراءه ما يحب إن قلته، فقال له: يا أعرابي إنا لنجود بالاحتمال على من لا نأمن غيبه ولا نرجو نصحه وأنت المأمون غيباً والناصح جيباً فهات، فقال الأعرابي: أما إذا أمنت بادرة غضبك فإني مطلق لساني بما خرست به الألسن بإذنه، لحق الله عز وجل وحق أمانتك يا أمير المؤمنين، إنه تكنفك قوم أساءوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياك بآخرتهم ورضاك بسخط الله، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة والأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تفسد آخرتك بدنيا غيرك، فإن المغبون كل المغبون من أفسد آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمانك أما أنت فقد سللت علينا لسانك وهو أقطع من سيفك، قال: نعم يا أمير المؤمنين وهو لك لا لغيرك، فقيل له: سل أمير المؤمنين حاجة، قال: ما آخذ خاصاً دون عام، ثم خرج.

ظلم عامل لسليمان رجلاً فقال: يا أمير المؤمنين إني أحذرك يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين)، قال: لا جرم لا أبرح أو تصل إلى حقك.

وغضب سليمان بن عبد الملك على خالد القسري، فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وإنك تجل عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل لذلك أنا، فعفا عنه.

احتال يزيد بن راشد في الدخول على سليمان متنكراً بعد أو لي الخلافة فقعد في السماط، وكان سليمان قد نذر أنه إن أفضت إليه الخلافة قطع لسانه لأنه كان ممن دعا إلى خلع سليمان والبيعة لعبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين كن كنبي الله أيوب عليه السلام، ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر، قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن راشد، فعفا عنه.

كان سليمان قد طلب يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فلما دخل عليه مكبلاً بالحديد ازدراه وقال: لعن الله رجلاً رفعك ووجهك في أمره، فقال له: رأيتني والأمر عني مدبر وعليك مقبل، ولو رأيتني والأمر مقبل علي لاستعظمت مني ما استصغرت ولاستجللت مني ما استحقرت، قال: صدقت، اجلس لا أم لك، فلما جلس قال له سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به، أتراه يهوي بعد في جهنم أو قد استقر فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا للحجاج فإنه بذل لكم نصحه وأحقن دونكم دمه وأمن وليكم وأخاف عدوكم، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك ويسار أخيك حيث شئت؛ فصاح سليمان: اخرج عني إلى لعنة الله.

بينما سليمان بن عبد الملك في مجلسه مر به رجل عليه ثياب يختال في مشيه، وكان العلاء بن كدير حاضراً فقال: ما ينبغي أن يكون إلا كوفياً وينبغي أن يكون من همدان، ثم قال: علي بالرجل، فأتي به فقال: ممن الرجل؟ فقال: ويلك دعني حتى ترتد إلي نفسي، فتركه هنيهة ثم قال له: ممن الرجل؟ فقال: من أهل العراق، قال: من أيهم؟ قال: من أ هل الكوفة، قال: من أي أهل الكوفة؟ قال: من همدان، فازداد عجباً، قال: ما تقول في أبي بكر؟ قال: ما أدركت دهره ولا أدركه دهري، ولقد قال الناس فيه وأحسنوا وهو إن شاء الله كذلك، قال: فما تقول في عمر؟ فقال مثل ذلك، فقال: ما تقول في عثمان؟ قال: ما أدركت دهره ولا أدركه دهري، ولقد قال فيه ناس فأحسنوا وقال فيه ناس فأساءوا وعند الله علمه، قال: فما تقول في علي؟ فقال مثل ذلك، قال: سب علياً، قال: لا أسبه، قال: والله لتسبنه أو لأضربن عنقك، فقال: والله لا أسبه، فأمر بضرب عنقه، فقام رجل بيده سيف فهزه حتى أضاء في يده كأنه خوصة وقال: لتسبنه أو لأضربن عنقك، قال: والله لا أسبه، ثم نادى: ويلك يا سليمان أدنني منك، فدعا به فقال: يا سليمان أما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني فيمن هو الشركة المتعهدة من علي؟ قال: وما ذلك؟ قال: الله تعالى رضي من عيسى وهو خير مني إذ قال في بني إسرائيل وهم الشركة المتعهدة من علي: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). قال فنظرت إلى الغضب يتحدر من وجهه حتى صار في طرف أرنبته ثم قال: خليا سبيله، فعاد إلى مشيته فما رأيت رجلاً قط خيراً من ألف رجل غيره وإذا هو طلحة بن مطرف.
قال سليمان لعدي بن الرقاع: أنشدني قولك في الخمرة، فأنشده:

كميت إذا شجت وفي الكأس وردة

 

لها في عظام الشاربـين دبـيب

تريك القذى من دونها وهي دونه

 

لوجه أخيها في الإناء قـطـوب

فقال سليمان: شربتها ورب الكعبة! فقال عدي: والله يا أمير المؤمنين لئن رابك وصفي لها لقد رابني معرفتك بها، فتضاحكا وأخذا في الحديث.

وكان سليمان هرب من الطاعون، فقيل له: إن الله عز وجل يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً). قال: ذلك القليل اطلب.

وقع بين ابن لعمر بن عبد العزيز وبين ابن لسليمان بن عبد الملك كلام فجعل ابن عمر يذكر فضل أبيه ويصفه فقال له ابن سليمان: إن شئت فأكثر أو فأقلل، ما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي، لأن سليمان هو الذي ولى عمر بن عبد العزيز.